Page 84 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 84

‫العـدد ‪33‬‬                           ‫‪82‬‬

                                                               ‫سبتمبر ‪٢٠٢1‬‬

‫حمدي عبد الرحيم‬

‫الرعب‬

     ‫الحقيقة لم تكن تفسر كلامها‪ ،‬والحقيقة لم أكن أهتم‬      ‫تصادقنا وكلانا في ريعان شبابه‪ ،‬كانت بشرتها ناصعة‬
‫بتحليلها الطائر لشخصيتي وشخصيتها‪ ،‬وكنت أنسبه إلى‬            ‫البياض‪ ،‬وكانت عيناها عسليتين‪ ،‬لم تكن تشغل نفسها‬
 ‫مبالغات النساء اللاتي يدعين العمق أو المعرفة‪ ،‬أو يرغبن‬  ‫باختيار مساحيق الزينة‪ ،‬فكل ملامحها متناسقة‪ ،‬قد زينها‬
‫في الظهور بمظهر الحزينات‪ ،‬لعلمهن بأن الحزن أو ادعاءه‬       ‫الله بفتنة كامنة‪ ،‬لم تكن تنفلت من حشمة فرضتها على‬
                                                         ‫نفسها إلا عندما تضحك‪ ،‬كانت ضحكاتها عنوا ًنا لمهرجان‬
               ‫يجعل المرأة مثيرة على نحو من الأنحاء‪.‬‬
‫أذكر أن علاقتنا بدأت منذ يوم البطيخ‪ ،‬وهو اجتماع شهير‬                      ‫من البهجة اللعوب يتمتع به جليسها‪.‬‬
                                                          ‫اختصا ًرا لم تكن تهتم سوى بأمرين‪ ،‬أمر شعرها الناعم‬
   ‫ج ًّدا في تاريخ شركتنا الكبرى‪ ،‬وأصل قصته أن السيد‬
‫رئيس مجلس الإدارة‪ ،‬ومعه السادة أعضاء مجلس الإدارة‪،‬‬          ‫الجامع بين اللونين الأسود والبني‪ ،‬كانت تقصه قصة‬
                                                              ‫الغلمان‪ ،‬تق ّصره من جانبيه ومن مؤخرته‪ ،‬ثم تطيل‬
  ‫قد دعوا لاجتماع يضم نخبة من مهندسي الشركة‪ ،‬كنت‬
                            ‫أنا وهي من تلك النخبة‪.‬‬        ‫مقدمته بعض الإطالة‪ ،‬وتجمع المقدمة كلها وتجعلها تا ًجا‬
                                                                                   ‫يعلو جانب رأسها الأيمن‪.‬‬
  ‫السيد رئيس المجلس والسادة أعضاء المجلس هم جماعة‬
      ‫من اللصوص الذين لا يشق لهم غبار‪ ،‬وعلى أيديهم‬        ‫وكانت تهتم ج ًّدا بملابسها‪ ،‬فهي دائ ًما نظيفة لامعة تبرز‬
                                                            ‫علامات أنوثتها في غير ابتذال أو عري فاضح‪ ،‬وكانت‬
   ‫وبفضل سرقاتهم‪ ،‬منيت الشركة بخسائر تقصم ظهر‬              ‫إذا أثنيت على اختيارها لملابسها تطلق واحدة من مفاتن‬
  ‫جبل‪ ،‬وعندما فاحت رائحة الخسائر‪ ،‬دعا مجلس الإدارة‬                                      ‫ضحكاتها ثم تقول‪:‬‬
‫إلى اجتماع نخبو ّي حمل عنوان‪« :‬سنعبر الواقع نحو آفاق‬                           ‫‪ -‬ملابسي هي التي تختارني‪.‬‬

                                ‫المستقبل السعيد»‪.‬‬          ‫لم أكن أصدق إجابتها‪ ،‬وكنت أحسبها نو ًعا من مبالغات‬
 ‫عندما تسلمت بطاقة الدعوة ضحك ُت وذهب ُت‪ ،‬هي ستقول‬                  ‫النساء اللطيفة‪ ،‬والآن أقول‪ :‬ليتني صدقتها!‬

                                     ‫لي فيما بعد‪:‬‬          ‫الحقيقة لم تكن هناك جوامع كثيرة تجمعني بها‪ ،‬ولكني‬
 ‫‪ -‬كدت أرفض الحضور وليكن ما يكون‪ ،‬ولكني وجدتها‬                     ‫كنت دائ ًما أستمتع بقضاء بعض الوقت معها‪.‬‬

                    ‫فرصة للنظر في عيون اللصوص‪.‬‬                           ‫***‬
   ‫جلسة الاجتماع كانت في قاعة فندق فخم‪ ،‬تحلقنا حول‬
 ‫مائدة بيضاوية‪ ،‬جاءت جلستي في مواجهة التي سأعرف‬           ‫عندما صادقتها كانت فتاة بك ًرا‪ ،‬جمع بيننا العمل‪ ،‬فكلانا‬
‫بعد قليل أن اسمها أمل‪ ،‬وستصبح بعد الاجتماع صديقتي‬        ‫يعمل مهند ًسا في شركة هندسية حكومية كبرى‪ ،‬أعمل أنا‬
                                                         ‫في المقر المركزي الذي يطل مبناه على النيل‪ ،‬وتعمل هي في‬
                                   ‫غريبة الأطوار‪.‬‬
‫تحدثوا جمي ًعا في كل شيء وعن كل شيء‪ ،‬دون أن يقترب‬                     ‫فرع متاخم لصحراء ضاحية مدينة نصر‪.‬‬
‫أحدهم من منبع الكارثة‪ ،‬كان واض ًحا أنهم جمي ًعا يريدون‬                                 ‫كانت كثي ًرا ما تقول‪:‬‬

     ‫غسل أيديهم من دماء الشركة بعد أن أزهقوا روحها‬       ‫‪ -‬عملك بالقرب من النيل أكسبك رعونة ما‪ ،‬وعملي بالقرب‬
    ‫بسرقاتهم وبلادتهم في إدارتها‪ ،‬عندما كانت أصواتهم‬                          ‫من الصحراء أكسبني حز ًنا ما‪.‬‬
  ‫تجلجل في القاعة الفخمة مكيفة الهواء معطرة النسمات‪،‬‬
   ‫هجم النوم عليّ‪ ،‬نوم ثقيل يصعد من بقعة ما من قلبي‬
   79   80   81   82   83   84   85   86   87   88   89