Page 16 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 16

‫العـدد ‪33‬‬   ‫‪14‬‬

                                                      ‫سبتمبر ‪٢٠٢1‬‬

                                     ‫إنهم موتى‬                       ‫عبقرية في قوله من هذه القصيدة‪:‬‬
             ‫حاجز من الأرق والأحضان المهجورة‬                                      ‫يدى مغلقة على الدم‬

               ‫ينبت أمام الخرائب والثياب الحمراء‬                     ‫وطبقة كثيفة من النواح الكئيب(‪)38‬‬
       ‫وذئاب القرون العابرة بالإشارات والأوسمة‬        ‫حيث تجسيد الصورة‪ ،‬مما ينثال به الديوان انثيا ًل‪.‬‬

                         ‫تشق طريقها داخل الدم‬              ‫وهذا الحرمان والشقاء والبؤس والاغتراب في‬
                 ‫تموت على الرمال البهيجة الحارة‬                                              ‫الوطن‪:‬‬

                    ‫لا شيء يذكر‪ ،‬الأرض الحمراء‬                               ‫آه ما أتعسني إلى الجحيم‬
       ‫والعصافير تكسر مناقيرها على رخام القصر‬                              ‫أيها الوطن الساكن في قلبي‬

                     ‫ودا ًعا‪ ،‬ودا ًعا إخوتى الصغار‬                              ‫منذ أجيال لم أر زهرة‬
         ‫أنا راحل وقلبي راجع مع دخان القطار(‪)43‬‬                       ‫الليالى طويلة‪ ،‬والشتاء كالجمر(‪)39‬‬
      ‫وأسلوب التكرار‪( ،‬ودا ًعا ودا ًعا) يؤكد الوداع‪،‬‬
 ‫والتكرار في ولا شيء ُيذكر يؤكد التشاؤم‪ ،‬والطباق‬                                ‫وهذه المفارقة الرائعة‪:‬‬
     ‫يؤكد المفارقة بين راحل وراجع‪ .‬أما عن مفهوم‬                                ‫ابتعدي كالنسيم يا ليلى‬
    ‫الأدب في قراءتنا لديوان محمد الماغوط هذا‪ ،‬فإن‬                            ‫يجب ألا تلتقي العيون(‪)40‬‬
 ‫اتساق الشاعر مع محيطه الاجتماعي والثقافي حدد‬
      ‫شخصيته الشعرية‪ ،‬وجمالياته الفنية‪ ،‬حتى في‬                                                    ‫‪..‬‬
‫مفارقتها في هذا الديوان مع ما أشرنا إليه من بعض‬                                  ‫أواه لم زرتني يا ليلى‬
‫تداعياته التي تصدم الجمال لأن الجميل الفعلي‪« ،‬هو‬                      ‫وأن ِت أشد فتنة من نجمة الشمال‬
  ‫أن الشيء لا يعني شيئًا سواه‪ ،‬ولا يحتوي إلا على‬                         ‫وأحلى رواء من عناقيد العسل‬
‫نفسه‪ ،‬وهو كل تام بذاته»‪ .‬فالجميل هو أساس الفن‪،‬‬                     ‫والموت بالمرصاد يقتل الحب والوطن‬
       ‫والأدب ليس أداة‪ ،‬إنه لغة قيمها في ذاتها(‪.)44‬‬
‫وهذا ما نراه متحق ًقا في شعر الماغوط من اتساقه مع‬                                  ‫والطبيعة والحياة‪:‬‬
  ‫ذاته‪ ،‬وإخلاصه لفنه الذي يحمل قيمه الخاصة به‪.‬‬                      ‫لا تكتبي شيئًا سأموت بعد أيام(‪)41‬‬
 ‫خاصة ما يتعلق بخصائص قصيدة النثر‪ ،‬وكان من‬            ‫بالقصيدة أساليب الشك تتراوح مع أساليب اليقين‪.‬‬
   ‫روادها‪ ،‬كالمفارقات الجدلية‪ ،‬وإثارة لغته الشعرية‬       ‫وبها هذا التناقض الذي يسم الحياة نفسها بين‬
          ‫على المستويين النفسي‪ ،‬والبعد الاغترابي‪.‬‬     ‫الرقة والقسوة‪ ،‬القبح والجمال‪ .‬هذه القصيدة أشبه‬
       ‫كذلك قرب أسلوبه من عامة القراء‪ ،‬والإيقاع‬           ‫بملحمة‪ ،‬شديدة الواقعية‪ ،‬شديدة الرومانسية‪.‬‬
         ‫التراكمي المكثف للغته الشعرية‪ ،‬وفاعليتها‬       ‫وهي تمثل هذا التنافر الذي أشرنا إليه من وجود‬
   ‫التجسيدية‪ ،‬وأبعادها التصويرية الجدلية غاية في‬
   ‫التلاحم والمفاجأة والعمق والشفافية(‪ .)45‬والرؤيا‬                           ‫الجميل إلى جانب القبيح‪.‬‬
‫الشعرية له قائمة على التمفصلات الجدلية‪ ،‬وعلاقتها‬                                  ‫هذا الأسى في قوله‪:‬‬
   ‫العابثة بالعادات والتقاليد‪ ،‬والخروج عن الأشكال‬
                                                                             ‫رأسي على حافة النافورة‬
                                     ‫المألوفة(‪.)46‬‬         ‫وماؤها الفضي يسيل حزينًا على الجوانب(‪)42‬‬
‫ومشاهد الحياة البسيطة بتوصيفها الحسي المشهدي‬
                                                                                                  ‫‪..‬‬
   ‫الحركي السريع‪« .‬فالكلمة الشعرية ‪-‬فى القصيدة‬           ‫وبردى الذي ينساب كسهل من الزنبق البلوري‬
 ‫الماغوطية‪ -‬ليست دا ًّل ومدلو ًل فحسب‪ ،‬وإنما حدث‬
‫ورؤية‪ ،‬يمفصل من خلالها الشاعر موق ًفا ما‪ ،‬ولحظة‬                                ‫لم يعد يضحك كما كان‬
                                                         ‫إنها منتهى المفارقة مما يوجب الفرحة بالطبيعة‬
      ‫موقفية غاية في التراكم والتعقيد مشحونة من‬
                              ‫لحظات الحياة»(‪.)47‬‬                                     ‫فيتلبس بالحزن‪.‬‬
                                                         ‫يختمها محمد الماغوط‪ ،‬ويختم الديوان بقوله في‬

                                                           ‫الفقرة الشعرية الأخيرة من قصيدة “القتل”‪:‬‬
                                                                                    ‫دع الهواء الغريب‬

                                                                                 ‫يكنس أقواس النصر‬
                                                                         ‫وشالات الشيوخ والراقصات‬
   11   12   13   14   15   16   17   18   19   20   21