Page 18 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 18

‫العـدد ‪33‬‬   ‫‪16‬‬

                                                            ‫سبتمبر ‪٢٠٢1‬‬

                    ‫كالساقطة المحلولة الغدائر(‪)59‬‬              ‫والدخان‪ ،‬والنسيم‪ ،‬والحرير‪ ،‬والبواخر‪ ،‬والطائر‪،‬‬
     ‫والرمز كامن في هذا الشوق الملتاع إلى الطفولة‬               ‫والليل‪ ،‬والخنادق‪ ،‬والأنين‪ ،‬والصخور‪ ،‬والنجمة‪.‬‬
  ‫ومفارقتها مع الكهولة‪ .‬والدلالات متنافرة الحقول‬             ‫والمفردات كثيرة‪ ،‬وقصيدة النثر‪ ،‬تقع حيث الصورة‬
‫اللغوية‪ ،‬إذ توصف الرياح بأنها جميلة‪ ،‬والغبار بأنه‬           ‫لا تدل إلا على نفسها‪ ،‬هى نثر يشب من أعماقه شعر‬
                                                                ‫خال من كل ما يجعل الشعر الموزون شع ًرا(‪.)52‬‬
                     ‫أعمى‪ ،‬والغابة تبتعد كالرمح‪.‬‬            ‫ولاشك أن الرمز كان وراء هذه المفردات‪ ،‬فض ًل عن‬
          ‫وهذه الدلالات المتنافرة معجميًّا هي مناط‬             ‫الصور في ديوان الماغوط‪ ،‬لأنه التفت إلى ما يجب‬
                                                               ‫أن نفعله‪ ،‬وأن يكون الفن لحظة توليد تنطوى على‬
                ‫الخصوصية في شعر الماغوط كله‪.‬‬                    ‫المفارقة «التي لا تعني رفض العقل‪ ،‬بل التخطي‬
   ‫كذلك الغرابة في الصور‪ ،‬بمعنى الطرافة والندرة‬
 ‫والجدة والابتكار في تصوير فؤاده المختنق أجرا ًسا‬                  ‫الجدلي لعقل يدرك أنه يفارق دائما ذاته»(‪.)53‬‬
    ‫من الدم‪ ،‬ومطاردة الطفولة له شب ًحا‪ ،‬أو ساقطة‬              ‫لقد كان لاستقلالية «نص» الماغوط الأثر الكبير في‬
  ‫محلولة الشعر‪ .‬وهذا هو وهج الكتابة الحداثية في‬               ‫تلقيه على نطاق واسع‪ ،‬إذ إنه ‪-‬بمفهوم علم النص‬
‫إطار المغامرة التجريبية التجديدية الباحثة عن «كلام‬          ‫الأدبي‪ -‬يأخذ سلطته من تشكيله‪ ،‬ومن السياق الذي‬
                                                              ‫يحمله‪ ،‬ومن التكوين الثقافي والنفسي للمتلقي(‪.)54‬‬
                         ‫آخر» ومعرفة أخرى(‪.)60‬‬
 ‫إنه القلق الوجودى وتساؤلات الحيرة والاضطراب‬                    ‫والرمز‪ ،‬في شعر الماغوط‪ ،‬خاصة السياسي منه‪،‬‬
                                                              ‫قرين المفارقة المرتبطة بالتورية الساخرة(‪ )55‬شك ًل‬
    ‫والخواء والغثيان والهذيان «الذي يضع اللغة في‬
                              ‫توتر سحري”(‪.)61‬‬                     ‫من أشكال النقيضة(‪ ،)56‬والتعارض في بنائها‪،‬‬
                                                            ‫وتحويرها لدلالة اللفظ والغموض‪ ،‬وتعدد المعانى في‬
 ‫وصورة «الأم» في هذه القصيدة لا تخلو من عبثية‬                ‫النص الأدبي‪ ،‬وما ينتج عنه من تصارع الأبنية(‪،)57‬‬
            ‫وقحة وفظاظة حتى في بعدها الحزين‪.‬‬
                                                                  ‫مما يعكس فلسفة المبدع‪ ،‬وشخصيته الثقافية‬
‫إن العبثية في شعر محمد الماغوط تبدو كأنها التقاط‬                                                ‫والأدبية(‪.)58‬‬
   ‫لما يجرى في العالم من انهيار متعدد لكل الأوهام‬
                                                            ‫وما سبق تقديمه من شعر محمد الماغوط حافل بهذه‬
 ‫والقيم والفضائل‪ ،‬والمواجهة بالتساؤل والإدانة‪ ،‬لا‬              ‫المفارقة الرامزة‪ ،‬وكذلك في قصيدته الومضة هذه‬
 ‫تعبأ بشيء‪ ،‬أو تبدو كذلك‪ ،‬متطرفة عدمية للتحايل‬                                        ‫بعنوان‪« :‬جناح الكآبة»‪:‬‬
 ‫على الضجر الملازم لليومي الفارغ الممل الرتيب(‪.)62‬‬                               ‫مخذول أنا لا أهل ولا حبيبة‬
                                                                                   ‫أتسكع كالضباب المتلاشي‬
   ‫وكأن قصيدة الماغوط ينطبق عليها ما ذهبت إليه‬                                        ‫كمدينة تحترق في الليل‬
  ‫الحداثة النقدية من تضحية الشاعر بنفسه للموت‬                                  ‫والحنين يلسع منكب ّي الهزيلين‬
 ‫في سبيل الشعر‪ ،‬وافتقاده لكل يقين‪ ،‬ولكل معرفة‪،‬‬                                ‫كالرياح الجميلة‪ ،‬والغبار الأعمى‬
                                                                                             ‫فالطريق طويلة‬
     ‫والدخول إلى عالم مجهول غامض تنحبس منه‬                                              ‫والغابة تبتعد كالرمح‬
   ‫كلمات القصيدة كتجربة وجودية تصبح كلماتها‬                                              ‫م ِّدى ذراعيك يا أمي‬
‫«تاري ًخا مخال ًفا‪ »..‬لا تتحدد الكتابة الشعرية قبليًّا‪ ،‬لا‬          ‫أيتها العجوز البعيدة ذات القميص الرمادي‬
  ‫بمضمونها ولا بشكلها المحدد مسب ًقا‪ ،‬ولا بقوانين‬                                ‫دعيني ألمس حزامك المص ّدف‬
‫جنس كتابى ما‪ ،‬لأنها تفترض ضرورتها الذاتية كل‬                                    ‫وأنشج بين الثديين العجوزين‬
  ‫مرة‪ .‬خاصة أن مهمة هدم اللغة المؤسسة‪ ،‬هو‪ ،‬في‬                                          ‫لألمس طفولتي وكآبتي‬
  ‫المقام الأول‪ ،‬هدم للشعر كمؤسسة وعودة إلى تلك‬                                                ‫الدمع يتساقط‬
    ‫الطاقة الاندفاعية التي لا تعرف لا سلطة القافية‬                           ‫وفؤادي يختنق كأجراس من الدم‬
                                                                                    ‫فالطفولة تتبعني كالشبح‬
     ‫ولا سلطة العقل‪ ،‬كعبور من كتابة الاحتفاء إلى‬
 ‫كتابة التدمير»(‪ .)63‬وكذلك التمرد‪ ،‬وتفجير المختلف‬
  ‫في قلب المؤتلف‪ ،‬والولوج في مختبر أخلاط المعاجم‬

                         ‫والخطابات الساخرة(‪.)64‬‬
      ‫ولعل نظريات النقد الحداثية ومناهجه كموت‬
   13   14   15   16   17   18   19   20   21   22   23