Page 19 - ميريت الثقافية- العدد 23 نوفمبر 2020
P. 19

‫‪17‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

 ‫أخرى‪ ،‬ووجدوه دون طائل‪ ،‬ولا أثر له في ِظ ِّل هذه‬                          ‫وغباء‪ ،‬وأن الطمأنينة بلادة روحية”‪.‬‬
  ‫الأوضاع الطاحنة‪ .‬لكن البعض الآخر قد يجد فيه‬                   ‫يشكل السرد ‪-‬في بعض التيارات الفنية‪ -‬عوال َم‬
                                                                 ‫جمالي ًة موازية لصلابة الواقع‪ ،‬الذي تهدمه‪ ،‬ثم‬
    ‫متنف ًسا‪ ،‬يهرب فيه من قبح الواقع ودمويته‪ ،‬أو‬               ‫تعيد بناءه من جديد‪ ،‬يخلق عوال َم مغاير ًة تتضمن‬
 ‫نه ًجا يبوح من خلاله عما يحدث له من أهوال‪ ،‬لعل‬
 ‫هناك من يشعر به‪ ،‬فدائ ًما ما كان للقضية الواحدة‬                  ‫حركية الخيال‪ ،‬ولا ثباته‪ ،‬واتساع قدراته على‬
‫عدد من ال ُّط ُرق التي يتفرق البشر في رؤيتها و ُط ُرق‬             ‫ال َخ ْلق المغاير؛ فتجعلنا نخرج ‪-‬نسبيًّا‪ -‬خارج‬
                                                                 ‫الأطر الخانقة‪ ،‬التي تكبل الروح البشرية‪ .‬حيث‬
                                         ‫تلقيها‪.‬‬              ‫ُتطلِق الرواية بشخوصها المتباينة المناظي ِر والرؤى‬
     ‫يسعي بعض الروائيين ‪-‬في ِظ ِّل توالي الأحداث‬                ‫أعم َق مخاوفنا‪ ،‬وتخيلاتنا‪ ،‬وتصوراتنا‪ ،‬وأغربها‬
                                                              ‫عن العالم‪ ،‬سواء في جانبه المادي أو المعنوي‪ ،‬ومن‬
        ‫الحياتية الثقافية القائمة‪ -‬لمراجعة المكونات‬
   ‫السردية وطرائق توظيفها؛ لتش ّكل منه ًجا جدي ًدا‬                ‫ثم تصوغ إنسا ًنا قاد ًرا على الانفكاك من وعاء‬
  ‫في مسار الحكي‪ ،‬هذه الآليات التي ُتج ِّدد أم ُتج َّدد‬       ‫الجسد بكل غرائزه‪ ،‬والتسامي في فضاء الروح بكل‬
                                                             ‫فيوضاتها وإمكاناتها‪ ،‬حيث يتعانق الجمال وال ِق َيم‪،‬‬
      ‫في الإبداعات الفنية؛ لج ْعلها أكثر تمث ًل للحظة‬
‫تاريخية‪ ،‬لها معطياتها الثقافية‪ ،‬السياسية‪ ،‬المختلفة‪،‬‬                              ‫حين تنصهر المتعة مع الفكر‪.‬‬
                                                                    ‫وفي ِظ ِّل الأوضاع الأخيرة في منطقة الشرق‬
   ‫شديدة التوتر‪ ،‬حيث السرد المفتوح على مسارات‬
       ‫تأويل لا نهائي‪ ،‬معالجات تركض وراء واقع‬                    ‫الأوسط‪ ،‬وإعادة تقسيم المنطقة‪ ،‬وما يحاك لها‪.‬‬
                                                              ‫َكفر الكثيرون بالفن‪ ،‬كما تشككوا في ِق َيم وكيانات‬
   ‫مجنون‪ ،‬لا ضاب ًطا ِق َي ِميًّا حقيقيًّا يستطيع تو ُّقعه‪،‬‬
 ‫لقد باتت الأحداث أكثر تسار ًعا وغرابة من المتخيَّل‬
  ‫في كثير من الأوقات‪ُ ،‬كتَّاب يبحثون عن ِبنًى فني ٍة‬
  ‫متغيرة‪ ،‬وغنية بالمتناقضات لتجسيد واقع حقيقي‬

   ‫غير نمطي‪ ،‬لخ ْلق َن ٍّص فني‪ ،‬يعادل ويتوازى مع‬
     ‫واقع حياة‪ ،‬ربما أفضل أوصافها كونها عبثية‪،‬‬
   ‫لا تقع في آفاق التوقع المعتاد‪ ،‬لا يملك الفرد فيها‬
     ‫حقيقة واحدة‪ ،‬يمكن أن يقبض عليها سوى أن‬
 ‫ينجو بحياته‪ ،‬هذا في المستوى الأول‪ ،‬حيث التعبير‬
   ‫عن واقعه وذاته فقط‪ .‬في المستوى الثاني‪ ،‬يحاول‬

       ‫استيعاب وكشف أنواع القوى المتصارعة في‬
‫المنطقة‪ ،‬وف ْضح توجهاتها‪ ،‬ليس طلبًا للتغيير ق ْدر ما‬

            ‫يجسد صرخة لحماية الأجيال القادمة‪.‬‬
‫إ َّن اشتعال الحروب الفعلية يستحضر لحظة سردية‬

    ‫شديدة التوتر‪ ،‬لحظة تفضي إلى العراء النفسي‪،‬‬
     ‫تتساقط فيها الأقنعة‪ ،‬وتتكشف وتنهال طبقات‬
‫الكذب البشري؛ لأنها لحظة مواجهة مع الموت‪ ،‬لقاء‬

                          ‫الحياة في مقابل العدم‪.‬‬
    ‫منذ عقود مضت‪ ،‬كانت لحظة مواجهة الموت في‬

      ‫الحروب تكتسب نو ًعا من التبجيل والقدسية؛‬
   ‫لأنها كانت دفا ًعا عن الأرض والمعت َقد‪ ،‬كما كانت‬
   ‫غالبًا في مواجهة عدو خارجي‪ ،‬لكنها الآن مبا ِغتة‬
‫وعنيفة‪ ،‬وبلا معنى واضح‪ ،‬فمن يتحكم في ساحات‬
    ‫المواجهات تيارا ٌت دينية‪ ،‬خ ْلفها زعامات ِعرقية‪،‬‬
   14   15   16   17   18   19   20   21   22   23   24