Page 33 - m
P. 33

‫‪31‬‬              ‫إبداع ومبدعون‬

                ‫رؤى نقدية‬

                                                                   ‫تحرير الموت‪.‬‬

                                                                   ‫يشترك الفيلسوف‬

                                                                   ‫والأديب في إرادة تحرير‬

                                                                   ‫الموت من قبضة الفقيه‪،‬‬

                                                                   ‫من الداعية‪ ،‬من الكائن‬

                                                                   ‫الكنسي بعبارة نيتشه‪.‬‬

                                                                   ‫هذا النموذج الزهدي‬

                                                                   ‫الذي يرهق قوى الناس‬

                                                                   ‫ويخدعهم من باب سردية‬

                                                                   ‫مروعة بشأن الموت هو‬

                                                                   ‫ما يقاومه الأدب من‬

                                                                   ‫خلال الكلمة ويدفعه‬

                                                                   ‫الفيلسوف من خلال‬

                                                                   ‫المفهوم‪ .‬هذه المهمة‬

‫بيتر سلوتردايك‬  ‫إيمانويل ليفيناس‬                       ‫أندريه جيد‬  ‫الخاصة بالكتابة عمو ًما‬
                                                                   ‫هي ما قصد إليه دولوز‬

                                                                     ‫بقوله‪« :‬إننا نكتب لكي‬

      ‫تاريخها‪ .‬لا يتعلق الأمر بقطيعة ُتبشر بوعود‬       ‫نعطي الحياة‪ ،‬من أجل تحرير الحياة حيث هي‬
    ‫تؤسس لمعتقدات لغوية جديدة على خلفية مسح‬
    ‫الطاولة‪ ،‬الأحرى أن رأس الشأن هنا هو انزياح‬         ‫مسجونة‪ ،‬من أجل ترسيم مسارب هروب»(‪ .)5‬إن‬
   ‫الكلمة عن مسارها المعهود‪ ،‬عن مدلولها الراسخ‪.‬‬
‫يتعلق الأمر بكارثة على حد تعبير سلاوتردايك وهو‬         ‫تحرير الحياة يتم عبر تح ِّدي الموت‪ ،‬عبر تفنيد‬
‫يصف الحدث النتشوي في تاريخ اللغة‪ .‬الكارثة التي‬         ‫المروية الفقهية بشأن الموت‪ .‬الكتابة إذن مقاومة‪،‬‬
 ‫يقتضيها تحرير اللغة من النسق‪ .‬إن إبداع أسلوب‬
   ‫هو كناية على كارثة لغوية بموجبها تصبح اللغة‬         ‫والكتابة الأدبية مقاومة من خلال الكلمة‪ ،‬والمقاومة‬
    ‫مجهولة لأهلها‪ ،‬غريبة عن نفسها‪ .‬وهي راسخة‬
 ‫في صلب التاريخ تصبح بلا تاريخ‪ .‬أثناء الأسلوب‬          ‫عبر الكلمة ليست أكثر من إبداع لأسلوب‪ .‬الأدب‪،‬‬
   ‫هناك شيء ما يحدث ُمتخطيًا ملكات الأنا‪ ،‬شيء‬
 ‫موغل في النسيان يتخطى قدم الذاكرة ويستعصي‬              ‫إذن‪ ،‬هو أسا ًسا إبداع لأسلوب‪ .‬لكن هذا النمط من‬
                                                       ‫الإبداع ليس من الإجراء التقني في شيء‪ ،‬فتصريف‬
      ‫على قبضة الإدراك‪ ،‬يسميه شوبنهاور الإرادة‬
     ‫الكلية‪ ،‬ويسميه سبينوزا الجوهر‪ ،‬وهو المحايد‬        ‫أسلوب مخصوص هو من جهة تمكين من أداة‬
  ‫بتعبير بلانشو أو الشخص الثالث بعبارة دولوز‪.‬‬
   ‫في الأسلوب تتمنع اللغة عن إمكانية فك التشفير‪،‬‬       ‫مقاومة‪ ،‬ومن جهة أخرى تحرير لهامش‪ ،‬تحرير‬
‫تنتهي صلاحية الدلالات المعهودة وبذلك تفتح اللغة‬
   ‫على المعاني الممكنة‪ُ .‬تمثل الدلالة سيادة الأنا على‬  ‫لما هو غير مرئي فيما هو مرئي‪ .‬إنه لغة الهامش‬
   ‫الكائن‪ ،‬أما المعنى فينبني على استحالة الأنا‪ ،‬على‬
                                                       ‫القادم‪ ،‬الأقلية المحتملة‪ ،‬الأقلية الكيفية التي يحدث‬
                                  ‫تعذر السيادة‪.‬‬
  ‫إن إسقاط نظام اللغة هو النظام الممكن للأسلوب‪.‬‬        ‫أثرها شعب ما‪ .‬إن إبداع أسلوب بحسب دولوز‪،‬‬

                                                       ‫هو أن «نكتب بدالة شعب قادم‪ ،‬شعب ليست له لغة‬

                                                                   ‫بعد»(‪.)6‬‬

                                                       ‫على المستوى الاجتماعي يكون إبداع أسلوب‬

                                                       ‫بمثابة إبداع لشعب محتمل‪ ،‬لنمط جدري في حديث‬

                                                       ‫الهوامش عن نفسها‪ .‬لذلك يشكل إبداع أسلوب‬
                                                       ‫انزيا ًحا وانكسا ًرا‪ ،‬أو ًل‪ ،‬في تاريخ السيادة اللغوية‪،‬‬
                                                        ‫وثانيًا‪ ،‬في تاريخ السيادة الاجتماعية‪ .‬كان فلوبير‬
                                                       ‫على وعي بأن تشكيل أسلوب يبدأ في اللحظة التي‬
                                                       ‫يتم فيها استعمال الكلمة استعما ًل مضا ًّدا لكل‬
   28   29   30   31   32   33   34   35   36   37   38