Page 41 - m
P. 41
39 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
والرفع والأحزان والتمني والجود والأنفاس ..إلخ. الأعناق ،وهي لا تزال خضراء ،وكأنه يبعث فيها
لقد برزت هنا ثلاثة دوال قوية ،تبين بشكل ث ٍّر الحياة من جديد؛ لحضورها إليه ،ومثولها بين
عن ذلك التوحد الشعوري بين الشاعر وزهوره،
أو زهراته الجميلات .يجيء الدال الأول في لفظه يديه ،متحدية الواقع المؤلم الذي تعيشه هي ،كما
(الخضر) ،وما تعنيه تلك اللفظة من اخضرار، يعيشه هو ،أو لأنها أحزان ملكية قد أصطبغت
والاخضرار يعني بقاء الحياة ندية ،بل نامية زاهية، بصبغة السمو والقداسة ،إنه هنا يبعثها من جديد،
يعضدها دال (الأعناق) ،خاصة إذا كانت مرفوعة، لأنه تلاحم معها وتوحد بها ،وليس ذلك بغريب
ولو كانت معكوفة بأحزانها ،فأحزانها الملكية ،بل عليه ،أو عجيب منه أن يمدها بزاده الإنساني
الطاهرة الباعثة ،رفعت الأعناق التي بدورها تبعث، (الصبر) القوي ،حتى يأنس بها وتأنس به.
بل بعثت الاخضرار من جديد.
أما الدال الثاني نلحظه في لفظه (العمر) ،وهو على أن المفارقة الأعجب فيما ألحقه الشاعر بالزهور
مسبوق بالتمني من الزهرات الجميلات المخلصات، من اخضرار ،بل بعثه من جديد ،وكأن الأحزان
تدلي ًل على الصفاء والنماء والبقاء ،والدال الثالث أضحت تطهي ًرا لها ،ومن ثم تبعثها في صورة
والأخير هو (تجود) ،وما تبعثه تلك اللفظة من
إيحاءات الفيض والعطاء والإيثار ،يتعاظم هذا جديدة أكثر اخضرا ًرا «كي تتمنى لي العمر» ،أي أن
الدال حينما يجيء وصاحباته (الزهرات) يلتقطن مجيئها أضحى إنسانيًّا بالدرجة الأولى ،وغايتها
أنفاسهن الأخيرة ،وقد خصها الشاعر بصيغتها من المجيء أكثر سم ًوا ،حيث تتمنى له العمر
الأخيرة تدلي ًل علي الموت الفعلي لهن ،مع بقاء المديد ،أو بقاءه حيًّا طويل العمر ،إذ أبان بأداه
الشاعر مف َّدى من قبلهن بالحضور مرة ،وبالتمني (كي) علة الحضور ،وزاد من ذلك المجيء التمني
مرة ثانية ،وبالدعاء مرة ثالثة ،وبالجود مرة رابعة.
الخالص ،ببقاء العمر وبركته للشاعر نفسه .إنه هنا
المشهد الخامس :المشهد الجنائزي يعمق الإحساس بالموقف ،حيث يستبدل الزائرين
يختتم الشاعر (أمل دنقل) قصيدته تلك بمشهد بالزهور ،إيما ًنا منه بأن الأوفى أو الأكمل تحول من
خامس (درامي /جنائزي) ،حيث تتفاقم فيه الإنسان إلى النبات ،يدلل على ذلك أن حواره هنا
حالة الفقد ،بل الموت من كل جانب ،حيث يصدره ما وجهه لصديق أو زميل ،أو حبيب ،و إنما وجهه
بالتفصيل بعد التعميم (كل باقة) ،إذ يبين المبتدأ للزهور ،أو هي وجهته له ،إحسا ًسا منه بقربهن
هنا مع مضافه عن التحديد بالكل ،لكل باقة (بين عن الآخرين من البشر ،وقد نقلها من نباتيتها إلى
إغماءة وإفاقة) ،إذ إن الموت ،أو بالأحرى التيه إنسانية سامية ،تجيء وتتعب ،وتتمنى كذلك ،إنها
الذي عاشه هو في البدء (ألمحها) بين إغماءة وإفاقة هنا أضحت بدي ًل حقيقيًّا ،بل هي المتمني ذاته أو
انتقلت منه إليها ،أو إليهن جمي ًعا ،أو قل :تراسلت المتمنية ذاتها ،حيث جاءت وهي مقطوعة الأعناق،
مع حاله ،لأن كل باقة -هي الأخرى ،نتيجة القطف أي حضرت بعلتها المادية مع غايتها السامية التي
والقصف والإعدام -دخلت حيز الفقد ،بل الموت، تنشدها له ،ببقاء العمر وبركته.
وهي تعيش حالته ،بل تبدلت حالها من الإغفاءة ويزداد المشهد إنسانية عبر سطره الأخير «وهي
عنده ،إلى الإغماءة عندها ،بما يعنى أنها هي الأخرى تجود بأنفاسها الآخرة» ،حيث تقدم تلك الزهور،
تلبثت به ،بل توحدت معه ،وراحت تنازع الموت، در ًسا إنسانيًّا ووفيًّا ،إذ إنها ُت ْؤثره على نفسها،
بأن تتمنى له عم ًرا باقيًا طوي ًل -بدي ًل عنها -وهي
كما ينازعه هو تما ًما. تنازع الفقد ،أو الموت وعبر أنفاسها الأخيرة ،ولك
والشاعر (أمل دنقل) يؤكد إحساس التشارك في
منازعة الموت م ًعا (تتنفس مثلى -بالكاد -ثاني ًة أن تلحظ هنا لفظه (تجود) وما تبعثه من دلالة
الفيض والكرم؛ وهذا أو ذاك تصدره ،وهي في
أشد الحاجة إليه ،إذ يمكن لها أن تقبع مكانها في
الدكاكين ،أو الشارع ،وتنال راحتها ،غير أنها
جاءت ومعها أمانيها وتمنياتها ودعاؤها عبر صورة
استعارية تشخيصية ممتدة في الأعناق والملكية