Page 39 - m
P. 39
37 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
المشهد الثالث :مشهد العرض القتل في غير موعده.
وما يلفت النظر هنا أن الشاعر (أمل دنقل) استخدم
إن الشاعر (أمل دنقل) يعيد التحدث للزهور حتى
بعد قطفها وقصفها وإعدامها ،ليقيم حوا ًرا سرد ًّيا الصور الثلاث بوسائل متنوعة ،لغوية وصفية،
أو أخرى تخييلية تشبيهية ،استعارها من حقول
بينه وبينها مرة ثانية ،نلحظ التحدث (تتحدث أخرى كالحروب والمعارك ،إذ تبدو الصورة الأولى
لي) ،و كأنها خصته بالتحدث له ،دون غيره؛ لأنها في وصفها ،أو تصويرها لغوية دالة ،لأن القطف
تعلم أنه أمين ،وحافظ للسر ،وهي بدورها تتحدث وسيلة لقطع النبات وتشذيبه ،أ َّما القصف والإعدام
فهما م ًعا يعبران عن سياق الحرب ،مما يحدو بها
له با َّثة شكواها ،وباعثة أنينها ،وهو ينصت لها، إلى التشخيص أو الأنسنة ،حيث وضع الزهور
ويشاركها تحدثها ،أو حوارها ،فض ًل عن تلاحمه (قص ًفا /وإعدا ًما) في موضع
الإنسان المقصوف ،أو المعدوم
بها ومسايرتها ،ومن هنا اختلق لنفسه دور وتلك صورة رامزة رافدة.
الراوي ،حيث نجده يسرد حديثها أو حوارها «أنها
أمل دنقل
سقطت من على عرشها في البساتين ،»..إنه هنا
ينقلها إلى دور جديد هو دور الملكة ،وإن لم يصرح
بذلك اس ًما ،ولا صفة ،أو لقبًا ،وإنما قدم كرسي
العرش ،أو العرش ذاته ،إشارة منه نصية إلى عرش
عشتار ،أو سبأ ،أو حتى إيزيس ،إذ لم يعطها دور
التشخيص ،أو بعده الإنساني فحسب ،وإنما أعطى
لها مكانة خاصة ،ترتبط بالملوك والسلاطين ،وكأنه
يرهص لما سيؤول إليه حالها بعد ذلك السقوط،
«ثم أفاقت» ،وكأنها كانت في إغفاءة ،أو إغماءة،
كإغفائه هو ،وإغمائه هو ،تلاح ًما معها ،بل توح ًدا
بها« ،ثم أفاقت على عرضها في زجاج الدكاكين/،
أو بين أيدى المنادين» ،يستعرض الشاعر تلك
الإفاقة بدهشة أخرى ،أكثر درجة ،وأعلى نسبة،
حيث وجدت نفسها معروضة في زجاج الدكاكين،
بما يعنى أنها نزلت من عرشها البستاني في أعلاه،
إلى معرض الزينة أو البيع في أدناه ،من الانطلاقة
والزهو والتفتح ،إلى القيد والانكفاء والانغلاق.
وتزداد ح َّدة ذلك المشهد بالصورة الثانية في سياق
ذلك العرض (أو بين أيدي المنادين) ،لتباع في
السوق ،أو الشارع ،فكيف لملكة تجلس على كرسي
عرشها يتردد إليها القاصي والداني إلى أن تصبح
سلعة تباع ،وتشترى بين العامة والخاصة على حد
سواء ،وجاء التخيير هنا ممت ًدا بمشهد السقوط،
لأن ما بعد السقوط يعد مرحلة أخرى فارقة ،تتبدى
فيها ،ومن خلالها مظاهر ذلك السقوط ونتائجه،
كالعرض والأسر والبيع والشراء ،ولك أن تلحظ
قوة المشهد بين زهور تهاب وتجمل ،وما يقترب
منها إلا للاستمتاع بجمالها الشكلى الحي النابض،