Page 10 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 10

‫العـدد ‪١٩‬‬   ‫‪10‬‬

                                                         ‫يوليو ‪٢٠٢٠‬‬

‫د‪ .‬عمار علي حسن‬

‫الزم ُن المستمُّر للق َّصة القصيرة‬

‫حين ُوضعت لافتة «زمن الرواية» أمام عيون كل الأدباء العرب‪ ،‬كن ُت قد‬
‫نشرت عد ًدا من الروايات أكبر بكثي ٍر من نظيره في كتابة القصة القصيرة‪،‬‬
‫ومع هذا تل َّقيت هذا الشعار أو هذه الخلاصة بتع ُّجب وخوف واندهاش‬
‫وحيرة ورفض ورغبة في المساءلة‪ ،‬ظلت تلح عل َّي حتى رفعت لافتة جديدة‬
‫تقول «زمن القص» أو تؤكد أن «القصة القصيرة هي شعر الدنيا الحديثة»‪.‬‬

‫القصيرة‪ ،‬وأخلصوا لها مثل إبراهيم صموئيل ومحمد‬                ‫في مدار الذات لا يمكنني أن أنسى أن القصة‬
 ‫المخزنجي‪ .‬ورأوا أنها تغنيهم ع َّما عداها‪ ،‬رافضين أن‬
 ‫تكون مج َّرد جسر لغيرها‪ ،‬وأنها ف ٌّن خالص جدير أن‬           ‫القصيرة كانت طريقي إلى السرد الواسع‪ ،‬وكن ُت‬
                                                          ‫أحسب‪ ،‬على حين غ َّر ٍة‪ ،‬أ َّنها مجرد قنطرة انتقلت بها‬
                         ‫ُيق َّدر و ُيحترم ويعلو لذاته‪.‬‬  ‫من الشعر إلى الرواية‪ ،‬لكن مع توالي الأيام‪ ،‬واختمار‬
      ‫لكن أدباء كبا ًرا في تاريخ العربية لم يشغلوا‬        ‫الفن أو نضجه في وجداني وعقلي أدركت أن القصة‬
     ‫أنفسهم بهذه التفرقة‪ ،‬ولم يتوقفوا يو ًما ليضعوا‬        ‫أص ٌل لا استغناء عنه‪ ،‬وجذ ٌر لا يمكن اجتثا ُثه‪ ،‬ولو ٌن‬
  ‫الرواية في وجه القصة‪ ،‬أو القصة في وجه الرواية‪،‬‬         ‫فن ٌّي ليس بمقدوري التعامل معه باعتباره مجرد جس ٍر‬
 ‫إنما أخلصوا لهذين اللونين الأدبيين ما بقي القلم في‬        ‫عابر‪ ،‬أو تدريب على سرد أوسع وأعمق‪ ،‬أو مرحلة‬
 ‫أيديهم‪ ،‬وما بقي الوجدان والمخيلة والذهن يفرضون‬
‫ما شاءوا‪ ،‬ولم يشعر هؤلاء الكتاب قط أن أحد اللونين‬           ‫في حياة كل أديب يجب ألا تطول‪ ،‬إنما الواجب هو‬
 ‫في وجه الآخر أب ًدا‪ ،‬أو أن القصة مجرد استراحة بين‬         ‫الاستقرار في الرواية‪ ،‬باعتبارها ن ًّصا سرد ًّيا كبي ًرا‪،‬‬
‫روايتين‪ ،‬وأن الرواية هي سرد ما بعد الهدنة في حرب‬          ‫وأكثر قدرة على الانتشار والبقاء‪ ،‬لكن كل هذا ذاب‪،‬‬
‫ضد نص طويل لا مناص من إنجازه‪ ،‬وأن هذا لا ب َّد أن‬          ‫وأيقنت أنه وهم‪ ،‬حين وجدت نفسي غير قاد ٍر على‬
                                                           ‫مغادرة فن القصة القصيرة‪ ،‬وأيقنت أنه ليس مجر َد‬
            ‫يسوق إلى تعب ور َهق ومسغبة إبداعية‪.‬‬            ‫نو ٍع أدبي نكت ُبه بين الأعمال السردية المتَّسعة مثل‬
‫لقد رأينا كيف ظل نجيب محفوظ ينتج اللونين م ًعا‪،‬‬            ‫الروايات‪ ،‬إنما هو مسار لا يمكن تجاوزه‪ ،‬أو النظر‬
 ‫فمنذ أن أصدر مجموعته الأولى «همس الجنون» التي‬              ‫إليه على أنه كتابة محصورة بين روايتين‪ ،‬أو نص‬
‫هي عبارة مختارات من بين ثلاثمائة قصة نشرها من‬             ‫قصير لا يش ِّكل سوى استراحة بين نصين طويلين‪.‬‬
 ‫قبل‪ ،‬ولم يرق للناشر سوى عشرها تما ًما كي يضمها‬             ‫أعرف أن هناك كثيرين أخلصوا فقط لهذا اللون‪،‬‬
‫في مجموعة واحدة‪ ،‬وهو يوازي بين الرواية والقصة‪،‬‬            ‫بعضهم حاول في الرواية‪ ،‬وأنتجوا فيها نصو ًصا لا‬
‫حتى انتهى إلى ما يمكن أن تكون القصة القصيرة ج ًّدا‬          ‫بأس بها‪ ،‬لكن صيتهم في القصة بقي هو الأساس‬

   ‫في «أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة»‪.‬‬           ‫الذي يتَّكئون عليه وفي مطلعهم يوسف إدريس‪،‬‬
  ‫وسيقول قائل إن محفوظ لم يكن أمامه سوى هذا‬                  ‫وهناك من حاول كتابة رواية‪ ،‬وأعلن عن هذا في‬
 ‫المسار بعد أن اعتلَّت صحته‪ ،‬وخارت قوته‪ ،‬ولم يعد‬          ‫جلسات خاصة‪ ،‬لك َّن شيئًا من هذا لم ي َر النور‪ ،‬ليظ َّل‬
                                                           ‫إبداعه السردي محصو ًرا في فن القصة ومقصو ًرا‬
     ‫بوسعه أن يجلس إلى مكتبه وهو شيخ طاعن في‬             ‫عليها‪ ،‬مثل سعيد الكفراوي‪ ،‬وهناك من اكتفوا بالقصة‬
  ‫السن‪ ،‬لاسيما بعد حادثة الاعتداء عليه من قبل شاب‬
   5   6   7   8   9   10   11   12   13   14   15