Page 13 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 13

‫‪13‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

    ‫مجموع حروفها ‪-‬حتى الآن‪ -‬عن مائتين وثمانية‬              ‫مستوى الإقدام عليه‪ ،‬والإحجام عنه‪ .‬فالثابت مث ًل أن‬
       ‫وثمانين حر ًفا‪ ،‬أو يكون مضط ًرا إلى أن يقسم‬          ‫هذا الفن قد انتعش في أوروبا حين راجت الدوريات‬
                                                             ‫الثقافية‪ ،‬وكانت سخية في منح مكافآت للكتاب عن‬
 ‫حكاياته إلى تغريدات متتابعة‪ ،‬هي أشبه بدفقات كان‬           ‫قصصهم‪ ،‬فأقبلوا هم على كتابتها إقبا ًل شدي ًدا‪ ،‬لسد‬
  ‫بعض كتاب القصة يدفعونها‪ ،‬وير ِّتبونها رقميًا بين‬
                                 ‫البداية والنهاية‪.‬‬              ‫احتياجهم إلى بعض المال‪ ،‬وحين تساقطت هذه‬
   ‫ويمكن للحكاية أن ترد على لسان را ٍو يسجلها‬                ‫الدوريات تبا ًعا تراجع حجم إنتاج هذا اللون الأدبي‬
  ‫بالصوت والصورة على موقع «يوتيوب»‪ ،‬ولا يزيد‬
  ‫الأمر في مواقع التواصل الاجتماعي كافة عن هذه‬                      ‫البديع‪ ،‬لكنَّه لم يصل أب ًدا إلى نقطة الصفر‪.‬‬
                                                              ‫فالأدباء الكبار الذين تتابع إنتاجهم الروائي‪ ،‬لا‬
‫الطريقة القديمة في الحكي التي كان يلجأ إليها الناس‬          ‫تزال القصة القصيرة تمثل لديهم فنًّا بدي ًعا لا يمكن‬
 ‫للبوح والتبيين والتسرية والتسلية في سالف الأيام‪.‬‬               ‫هجرانه‪ ،‬والأدباء الصغار يعتبره بعضهم مسار‬
                                                               ‫تدريب على كتابة سردية يمكن أن تطول وتتع َّقد‬
    ‫فمث ًل كان الفرد يعود في نهاية اليوم من السوق‬          ‫مستقب ًل لتكون رواية‪ ،‬وبين الاثنين هناك من يقصر‬
     ‫أو المحكمة أو المكتب الحكومي أو ملعب الكرة‬                ‫إبداعه عليها‪ ،‬دون أن يشعر بنقص‪ ،‬بل إن بعض‬
                                                            ‫هؤلاء يعتبرونها الفن السردي الأصعب‪ ،‬لما تنطوي‬
 ‫ليقص على أهله وأصحابه ما جرى له‪ ،‬وكان هؤلاء‬                  ‫عليه من تكثيف للأحداث‪ ،‬وبديهة حاضرة لالتقاط‬
‫يتحلَّقون حوله مشنِّفين آذانهم‪ ،‬لينصتوا إلى حكايته‬          ‫ما يصلح للكتابة من مجريات الحياة‪ ،‬أو ما يهيم به‬
‫القصيرة‪ ،‬كي يشاركوه همومه‪ ،‬أو يستمتعوا بها‪ ،‬أو‬
                                                                                     ‫الخيال‪ ،‬أو من مزجهما‪.‬‬
                              ‫يسدوا له النصيحة‪.‬‬           ‫وبعي ًدا عن موقف الأدباء ومنفعتهم‪ ،‬وحسابات دور‬
      ‫إن الحكايات الشفاهية التي لم تتوقف‪ ،‬والتي‬           ‫النشر ومصالحها‪ ،‬فإن تسا ُرع وتيرة الحياة مع تقدم‬
‫أجبرت وسائط التواصل الاجتماعي على الإنترنت على‬            ‫التصنيع‪ ،‬وتعزز قدرة مواقع التواصل الاجتماعي على‬
‫اختزالها‪ ،‬تؤكد‪ ،‬دون مواربة‪ ،‬أن الحاجة إلى الحكاية‪/‬‬        ‫جذب الجيل الجديد بقوة نافذة‪ ،‬لا فكاك منها‪ ،‬سيجعل‬
   ‫القصة مستمرة‪ ،‬لأنها تلبي ندا ًء إنسانيًّا واجتماعيًّا‬
 ‫يتجدد في الأزمنة والأمكنة‪ ،‬حيث لا يوجد شعب بلا‬               ‫القصة القصيرة‪ ،‬والقصيرة ج ًّدا‪ ،‬مطلوبة بإفراط‪،‬‬
                                                           ‫ولديها ُمكنة أكبر على التفاعل والدوران مع «التفكير‬
                   ‫قصص‪ ،‬كما يقول رولان بارت‪.‬‬
‫لا يعني هذا أن المجتمعات طوال تاريخها لم تعرف‬                 ‫ال َّش َبكي» الذي صنعه الإنترنت‪ ،‬ويزداد تأثيره مع‬
                                                                                 ‫مطلع شمس كل يوم جديد‪.‬‬
  ‫القصص غير القصيرة التي ترد على الألسنة‪ ،‬إذ إن‬
‫الروايات الطويلة والملاحم النثرية والشعرية الشفهية‬        ‫فنحن نطالع كثي ًرا حكايات مكتوبة على «فيسبوك»‬
                                                          ‫هي بنت واقع من نقروا على لوحة الحروف كي تظهر‬
       ‫تكاد تكون قاس ًما مشتر ًكا بين الأمم على مدار‬
   ‫التاريخ‪ ،‬وبعضها تتقارب موضوعاته‪ ،‬وإن تو َّحدت‬            ‫لنا على هذا النحو‪ ،‬بغض النظر عن مستوى إتقانها‬
 ‫أو تشابهت خصائصه وطرق التعبير عنه‪ ،‬لكن البشر‬                 ‫اللغوي‪ ،‬أو اتساقها مع التصور العام لفن القصة‪،‬‬
                                                           ‫فأصحابها لم يزعموا أنهم يكتبون هذا النوع الأدبي‪،‬‬
    ‫يميلون بطبعهم إلى القصة التي تكتمل في جلسة‬
     ‫واحدة‪ ،‬بل إن هذه تطاردهم في حياتهم اليومية‪،‬‬               ‫ولا يشغلهم كيف نرى ما كتبوا‪ ،‬بقدر انشغالهم‬
 ‫وتأتي إليهم في مكانهم‪ ،‬بينما يكونون هم في حاجة‬                  ‫بالتعبير عن مواقف مروا بها‪ ،‬وأحوال نفسية‬
  ‫إلى الذهاب إلى المكان الذي ُتروى فيه الملاحم على‬
                                                              ‫عاشوها‪ ،‬ومكنون من تصورات وتأملات اشتغل‬
                  ‫ألسنة شعراء شعبيين أو حكائين‪.‬‬                ‫في أنفسهم واختمر فوجدوا في البوح به سبي ًل‬
      ‫لهذا ظلت القصة القصيرة استجابة لطلب لا‬              ‫للراحة‪ ،‬وجلسوا ينتظرون كيف سيتفاعل أصدقاؤهم‬
    ‫ينقطع‪ ،‬وهذه الوظيفة لا أظن أنها ستنقضي أب ًدا‪،‬‬
  ‫ومن ثم يصبح من العبث أن تتحدث النخبة المثقفة‬                                     ‫ومتابعوهم مع ما كتبوه‪.‬‬
    ‫عن تراجع فن أدبي يقبل عليه الناس ويصنعونه‬              ‫أما على «تويتر» فيجب على من يبوح أو يحكي أن‬
     ‫ويبدعونه ويتداولونه بالطرق التقليدية‪ ،‬وعلاقة‬         ‫يتمتع بقدرة هائلة على الاختزال والإزاحة ثم التكثيف‬
 ‫الوجه للوجه‪ ،‬أو عبر المسارات الإلكترونية الجبارة‬         ‫والتثبيت والتثبت‪ ،‬فيقص كل شيء في سطور لا يزيد‬
   8   9   10   11   12   13   14   15   16   17   18