Page 17 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 17
في تاريخ الإنسانية تم تصوير
الحروب على أنها ملاحم كبرى، يسألهم أحد في برنامج متلفز
أو حوار صحفي أو خلال جلسة
يمكن أن تصاغ شعًرا في آلاف خاصة .وقد مرت على الجميع في
الأبيات التي بوسعها أن تشكل العقد الأخير ألوان من هذا ،فبعد
اندلاع الهبات والانتفاضات والثورات
مئات القصائد ،أو تكتب نثًرا في وسقوط أركان سلطة هنا وهناك،
حوليات أدبية ،إن صح التعبير، خرج المتصلون بها ،والمتن ِّصلون
منها ،ليرووا للناس الكثير من
تحوي آلاف الصفحات ،التي تتحدث الحكايات عما كان يدور خلف في
عن البطولات العظيمة التي أروقة الحكم ودهاليزه .واستمر الأمر
نفسه في المحاكمات التي أجريت،
خاضها فرسان استثنائيون ،ربما لم حيث وقف كثيرون في ساحات
تعنهم الحياة وقت المعركة في العدالة يسردون أشياء كانت خافية
على الناس.
شيء سوى تحقيق الانتصار الكبير ورغم هذا فإن أغلب الناس لا
يسحبون ما سمعوه عن ماضيهم
الكبير ،الذي يخلد أسماءهم ،أو يجعل بلدانهم تقدرهم إلى حاضرهم ،فيدركون كثي ًرا مما
يجري لهم من واقع فهم واستقراء وتحليل ما كان ،بل
يتعاملون مع ما يقع على أنه غارق في التقريرية ،وأن خير تقدير على ما قدموه في سبيل الوطن من كفاح
الغموض الذي يكتنف بعض الأشياء لا يمكن أن يكون وتضحيات.
لكن أ ًّيا من هذه الملاحم لم يعن كثي ًرا بالبطولات راج ًعا إلى سحر الحكايات أو الفراغات التي تتخلَّلها
الصغيرة التي شكلتها ،أو نبتت على ضفافها، وتحتاج إلى من يردمها بإتمام ناقصها ،وتجلية
وبوسعنا أن نرى كل منها بمنزلة قصة قصيرة أو غامضها ،إنما رجوعه الأساسي ،وربما الوحيد ،هو
إلى حجب المعلومات عن الناس ،أو الإفراج عن القليل حكاية فردية ،ولنقل ذاتية ،عن الذين قاتلوا في بسالة
وانتصروا ،ومن بينهم الذين استشهدوا ،أو أولئك
الذين أصيبوا ،وبقوا على قيد العيش مع الناجين، منها ،مما لا يشفي الغليل ،ولا ُيشبع النهيم.
إن السياسة والدبلوماسية لا تحلِّق في فراغ ،فهي
في خاتمة المطاف من صناعة بشر تجذبهم الحكايات ليحكوا لنا كل ما مروا به وكابدوه ،وليس أمامنا نحن
الغائبين عن ساحة المعركة سوى الإنصات إليهم،
أكثر من غيرها ،حتى ولو في أوقات الفراغ ،أو بين
لأنهم وحدهم الذين خاضوا التجربة في أعمق وأدق
التج ُّهم وأخيه.
معانيها وحال وجودها أو حضورها الطاغي.
)٣
لكن ليس بوسع أي من هؤلاء أن يحكي لنا كل الحرب قصص يبدعها المقاتلون
ما جرى ،طو ًل وعر ًضا ،وشر ًقا وغر ًبا ،وشما ًل
وجنو ًبا ،إنما يمكنه أن يسرد ،ووقتها نصدق من في تاريخ الإنسانية تم تصوير الحروب على
زاوية وطنية أو إنسانية ،ما جرى له كفرد ،رأى ما
وقع ،وهو ينخرط فيه بكل كيانه ،وينشغل ذهنه أنها ملاحم كبرى ،يمكن أن تصاغ شع ًرا في آلاف
بساحة القتال العريضة بحثًا عن نصر فيها ،وتشتعل الأبيات التي بوسعها أن تشكل مئات القصائد ،أو
مشاعره بكل ما يحفظ حياته ،ويردي عدوه ،وتذهب
تكتب نث ًرا في حوليات أدبية ،إن صح التعبير ،تحوي
عيناه إلى الرايات المرفوعة في بلاده ،التي تنتظر آلاف الصفحات ،التي تتحدث عن البطولات العظيمة
التي خاضها فرسان استثنائيون ،ربما لم تعنهم
الحياة وقت المعركة في شيء سوى تحقيق الانتصار منه أنه يعود مظف ًرا.