Page 20 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 20

‫العـدد ‪١٩‬‬   ‫‪20‬‬

                                                         ‫يوليو ‪٢٠٢٠‬‬

   ‫فصولها ومقاطعها وسطورها في المجال العام إثر‬                 ‫وإقنا ًعا‪ .‬وقد توسلت بعض الدراسات الميدانية‪،‬‬
    ‫تتابع الأخبار التي يصنعها الإرهابيون من تهدي ٍد‬      ‫والتحقيقات الصحفية والمتابعات بمثل هذه القصص‪،‬‬

 ‫ووعي ٍد واغتيا ٍل وقت ٍل وتدمير‪ ،‬ويصبح وراء كل خبر‬          ‫التي توزعت بين ما يدلي به إرهابيون من إفادات‬
 ‫قصة قصيرة‪ ،‬لها مكانها وزمانها والشخصيات التي‬            ‫وشهادات أو ما يقوله شهود عيان عن حوادث إرهابية‬
‫شاركت في سيرها من البداية إلى النهاية‪ ،‬مغلقة كانت‬
                                                                                       ‫وقعت هنا أو هناك‪.‬‬
                                     ‫أم مفتوحة‪.‬‬          ‫وبعض ما يرويه إرهابيون من حكايات ينطوي على‬
  ‫إن هذه الموجات الدموية‪ ،‬وإن كانت قد رمت إلى‬            ‫قدر من سمات القصة الأدبية عبر ثلاثة أبواب‪ ،‬الأول‪:‬‬
 ‫المجرى الاجتماعي حكايات غارقة في الدم والدموع‪،‬‬
 ‫فإنها‪ ،‬من الناحية المجردة بعي ًدا عن ميولنا الرافضة‬        ‫هو المبالغة‪ ،‬إذ يحرص هؤلاء على الكذب إما رغب ًة‬
                                                           ‫منهم في تضخيم دورهم ومكانتهم‪ ،‬أو إضفاء طابع‬
       ‫بالطبع للإرهاب‪ ،‬جعلت المشهد العربي حاف ًل‬            ‫أسطوري على حالهم بما يغري آخرين بالانضمام‬
 ‫بحكايات أخرى‪ ،‬نظ ًرا لأن أغلب أفعال الإرهاب تحدث‬           ‫إليهم‪ .‬والثاني‪ :‬هو التو ُّسل بلغة ذات إيقاع وجرس‬
                                                            ‫قوي غارقة في المجازات أحيا ًنا تماشيًا مع طريقة‬
                                 ‫في أرض عربية‪.‬‬           ‫هؤلاء في التعبير وما تجود به عليهم المعاجم والكتب‬
                                                         ‫القديمة التي يلتقطون منها كثي ًرا من ألفاظهم‪ .‬والثالث‪:‬‬
                                  ‫‪)٥‬‬                      ‫هو استعمال تقنيات الإخفاء والإضمار ُبغية المراوغة‬
                                                           ‫والغموض الذي يفرضه الوضع الأمنى للإرهابيين‪،‬‬
              ‫التراث حين ُيستعاد قص ًصا‬
                                                              ‫وبذا يتركون دو ًما فراغات داخل نصوصهم‪ ،‬بما‬
    ‫حين يتح َّدث المخت ُّصون في دراسة التراث أو‬            ‫يجعل المسكوت عنه حاض ًرا‪ ،‬في ظل عدم الانشغال‬
‫يكتبون فإنهم يأتون بالماضي على أكف الحاضر في‬               ‫بالتفاصيل الواسعة التي يهتم بها الروائيون‪ ،‬وتسد‬
‫صيغة معارف ونظريات صارت مساقات موزعة على‬                 ‫فراغات كثيرة‪ ،‬لاسيما عبر ما يس َّمى «الراوي العليم»‪.‬‬

   ‫علوم حديثة‪ ،‬بعضها قابل للتداول والاستفادة منه‬              ‫إن القصص والحكايات مثلما هي طريقة مثلى‬
‫مثل الفلسفة ونصوص الأدب والبلاغة وقبلهما بعض‬              ‫للوعظ والنصح والإرشاد والهداية‪ ،‬في الأديان كافة‪،‬‬

  ‫الآراء الدينية والتاريخ‪ ،‬وكثير منها لم يعد إلا جز ًءا‬     ‫فإن الإرهاب المستند إلى تصورات دينية مغلوطة‪،‬‬
‫من تاريخ العلم غير قابل للتطبيق في واقعنا المعيش‪.‬‬         ‫يستعمل الوسيلة نفسها في الدعاية لأفكاره‪ ،‬وتثبيت‬
                                                         ‫أنصاره‪ ،‬والكيد لخصومه‪ ،‬وبذا فإن كثيرين من أفراد‬
  ‫أما غير المختصين‪ ،‬وهم الأغلبية الكاسحة فإنهم‬            ‫التنظيم يحوزون ملكة الحكي بطريقة أو أخرى‪ ،‬حتى‬
      ‫يستعيدون التراث قص ًصا قصيرة‪ ،‬أو حكايات‬
      ‫مختزلة‪ ،‬سواء كانت تنحدر من تفسير وتأويل‬                            ‫لو كانت حكاياتهم مرعبة أو مخزية‪.‬‬
                                                          ‫وبعض هؤلاء المتط ِّرفين والإرهابيين يتقاعدون أو‬
‫القصص الديني المنصوص عليه في القرآن والحديث‬               ‫يتراجعون ويسجلون تجربتهم سر ًدا في عمل طويل‪،‬‬
  ‫النبوي‪ ،‬أو تأتي من باب أولئك الذين يؤدون وظيفة‬          ‫لا يتسم‪ ،‬في الغالب الأعم بالتماسك‪ ،‬الذي تتصف به‬
                                                           ‫الكتابة الروائية أو السير الذاتية أو السرد الصحفي‬
‫في الوعظ والإرشاد والهداية من العاملين على الدعوة‬
   ‫أو دراسة الأديان‪ ،‬أو كانت من الموروث الشعبي‪،‬‬                 ‫العميق‪ ،‬إنما يأتي وكأنه مجموعة من المشاهد‬
    ‫الذي أنتجته القريحة الشعبية الكلية‪ ،‬والنازع في‬          ‫الحكائية أو القصصية المتلاحقة‪ ،‬أو هكذا تبدو إن‬
          ‫الغالب الأعم إلى الفن والتأريخ والأسطرة‪.‬‬        ‫صفيناها من التبريرات النظرية التي يمكن أن يدسها‬
                                                         ‫بين ثنايا سطوره‪ ،‬محاو ًل أن يقلل من قبح الدور الذي‬
‫فالفرد العادي حين يتحدث عن شخصية تاريخية‪،‬‬                ‫كان يلعبه في الماضي‪ ،‬أو يصنع لنفسه صورة أخرى‬
‫سواء كانت لقائد عسكري أو فقيه ديني أو متصوف‬                  ‫ُتس ِّوقه في المجتمع الذي عاد إليه‪ ،‬طو ًعا أو كر ًها‪.‬‬
                                                          ‫ومع تواصل موجات الإرهاب‪ ،‬وك ٌّل منها يمكن أن‬
  ‫ورع أو سياسي ترك بصمة أو حتى بعض العلماء‬                ‫تش ِّكل رواية كاملة في أي دولة اصطلت بناره‪ ،‬تتناثر‬
    ‫في مختلف ألوان العلم والمعرفة فإنه لا يتناولها‬
     ‫مثلما يفعل المح ِّققون والمؤرخون ومن يكتبون‬
 ‫تاريخ العلم أو يستعرضون الأدبيات وينقدونها في‬
 ‫مستهل الدراسات والأبحاث والأطروحات الجامعية‪،‬‬
  ‫إنما يسترجعونها حكايات شفاهية أو كتابية‪ .‬وفي‬
   15   16   17   18   19   20   21   22   23   24   25