Page 25 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 25

‫‪25‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

  ‫المنطلق من منظور والمرتبط بموضوع‬                                ‫أو ًل‪ :‬الفارابي والمنهج العقلاني‬
         ‫والمتش ِّكل في تص ُّور‪ ،‬يسترجع‬
                                                          ‫تأثر الفارابي بالمدينة الفاضلة لأفلاطون تأث ًرا‬
      ‫فيستشرف ويعلِّل فيثبت ويفترض‬                          ‫بيّنًا فوضع كتابه أو بالأحرى رسالته (آراء أهل‬
 ‫فيف ِّسر ويستقي بلا فوضى ويجادل من‬                        ‫المدينة الفاضلة ومضاداتها) وهي تقع في سبعة‬
‫دون عشوائية ويوافق أو يدحض بمنطقية‬                      ‫وثلاثين با ًبا‪ ،‬تناولت جدلية الإيمان والشرك والضد‬
‫ليس فيها عرضية أو استطراد أو تطويل‪.‬‬                     ‫والحد والعظمة والمراتب والأسماء والمادة والصور‬
  ‫وأول الأقوال عند الفارابي القول في‬                       ‫والهيولى والحركات والطبيعة والنفس الإنسانية‬
  ‫إثبات الفردانية لله تعالى وأنه لا شريك‬               ‫والإرادة والقوة الناطقة والولي والرئاسة والصناعات‬
‫له وتعليله المنطقي لذلك أنه تعالى « ُمباين‬
                                                                                               ‫وغيرها‪.‬‬
   ‫بجوهره لما سواه‪ ،‬ولا يمكن أن يكون‬                         ‫ولعل ما شغل الفارابي وغيره من الفلاسفة‬
   ‫الوجود الذي له لشيء آخر سواه»(‪.)3‬‬                    ‫المسلمين كابن رشد وابن سينا وابن طفيل وغيرهم‬
 ‫وإذ لا وجود لآخر يماثل الذات الإلهية‬                    ‫هو الوجود وما قبله وما بعده‪ ،‬والكيفية التي يرشد‬
                                                           ‫بها العقل الواعي الذات ‪ The Self‬لنعرف حقيقة‬
     ‫أو يشترك معها في بعض الصفات؛ فإ َّن الجمال‬            ‫الكون‪ ،‬وهل الإنسان هو المركز والقطب؟ وكيف‬
  ‫سيغدو لها وحدها والتمام لن يكون إلا لها‪« ،‬والتام‬     ‫نستدل على الألوهية؟ وما علاقتها بالنزعة الإنسانية؟‬
  ‫في الجمال هو الذي لا يوجد من نوع جماله خار ًجا‬              ‫وما سبل تحقيق الذات ‪Self Actualization‬؟‬
                                                           ‫وما العلاقة الخفيَّة بين الصورة والمادة؟ وأيهما‬
                                         ‫منه»(‪.)4‬‬
  ‫ويترتب على ما تقدم النفي للضد عنه تعالى لأن‬                   ‫الفاني الروح أم الجسد؟ ولم ينشطر الوعي‬
 ‫الضد مباينة للشيء «فلا يمكن أن يكون ضد الشيء‬          ‫‪ Consciousness‬إلى اللاوعي؟ وكيف نثبت علائقية‬
‫هو الشيء أص ًل»(‪ .)5‬والضد ُمب ِطل لضده في جوهره‬
   ‫كونهما في رتبة واحدة من الوجود‪ ،‬وهذا ما تتنزه‬           ‫المنطق ‪ Rationality‬بالغيب؟ وكيف نثبت بطلان‬
                                                           ‫الحواجز بين البيولوجيا والميتافيزيقيا والجواهر‬
     ‫عنه الذات الإلهية التي اتصفت بأسماء ينبغي أن‬          ‫والأعراض والمتجسد والمترونح في إطار نظرية‬
‫تسمى بها وكلها تدل على الكمال لذا يتو َّجب الخشوع‬
                                                                               ‫المعرفة ‪Epistemology‬؟‬
                    ‫الذي يعني أن للعالم إل ًها يديره‪.‬‬        ‫بد ًءا‪ ،‬اعتمد الفارابي في فلسفته الباحثة في‬
  ‫ووحدة الله تعالى هي عين ذاته «وأنه تعالى عالم‬         ‫المسببات والمحصلات على ميكانيزم (القول) الذي‬
                                                         ‫دا َوم على استعماله في كتابه موضع الرصد‪ ،‬وهو‬
      ‫وحكيم وأنه ح ٌّق وح ٌّي وحيا ٌة فإن وجوده الذي‬        ‫عنده بمثابة الرأي المبني على النظرية والتعبير‬
   ‫ينحاز عما سواه من الموجودات لا يمكن أن يكون‬
   ‫غير أ َّنه في ذاته موجود»(‪ .)6‬وهو تعالى جل وعلا‬
 ‫ليس مادة ومن ثم لا يحتاج إلى عقل‪ ،‬لهذا هو مكت ٍف‬
 ‫بجوهره في أن يعلم بذات واحدة وجوهر واحد غير‬
  ‫منقسم‪ ،‬وهو حق و«حقيقة الشيء هو الوجود الذي‬
   ‫يخصه»(‪ .)7‬وهو بصير «هو في نفسه على غاية ما‬
   ‫يكون من الظهور والاستنارة»(‪ .)8‬وعادة ما يوظف‬
 ‫الفارابي ميكانيزم القول في إطار الاحتجاج والتدليل‬
‫متَّخ ًذا منه فرضية يسعى إلى إثبات منطوقها والتدليل‬

                  ‫على صحة ال ِعلل التي تقوم عليها‪.‬‬
‫والفارابي كثير البحث عن الأسباب وعادة ما يكون‬

     ‫منشغ ًل بتت ُّبع الصفات والمسميات وغايته الظفر‬
  ‫بالجواهر والأصول بإزاء الذات الإلهية وما تتصف‬

      ‫به عن غيرها من الموجودات بالعظمة والجلال‬
   20   21   22   23   24   25   26   27   28   29   30