Page 26 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 26

‫العـدد ‪١٩‬‬   ‫‪26‬‬

                                                       ‫يوليو ‪٢٠٢٠‬‬

‫الأحوال التي توجد بها الحركات الدورية وفي الطبيعة‬      ‫والمجد‪ ،‬واج ًدا في الإدراك علاقة بين الكمال وجوهره‬
  ‫المشتركة نفسها اهتما ًما ملحو ًظا إذ ليس «التفاضل‬      ‫وبين اللذة والغبطة والسرور‪ ،‬وإنما يحصل الأجمل‬
  ‫في حركاتها بحسب أفانينها إلى غيرها»(‪ .)14‬ولهذه‬                ‫والأبهى والأزين بالإدراك الأتقن والأتم(‪.)9‬‬
  ‫الأجسام هيولانية في الحدوث أو ًل في الاسطقسات‬               ‫والالتذاذ بالذات يعني حبها والإعجاب بها‪.‬‬
                                                               ‫والمحب هو المحبوب عينه والعاشق منه هو‬
‫كالبخار والغيوم والرياح‪ ،‬فتختلط مع بعضها وتتضاد‬         ‫المعشوق‪ ،‬ولأن جميع الموجودات تصدر عنه تعالى‬
 ‫وتتعاقب صورها على الهيولى‪ ،‬وما دوام الأشياء إلا‬          ‫لذلك هو الأول في الوجود‪ .‬وبحسب الفارابي فإن‬
  ‫بوجودها كمادة وصورة مشتركة ومتضادة‪ ،‬تتحلل‬              ‫الموجودات على مراتب‪ ،‬وهي كثيرة وتتفاضل فيما‬
 ‫من تلقاء نفسها بما هو موجود في داخلها من أشياء‬              ‫بينها بالكمال والنقصان وهي مهددة بالتناقض‬
  ‫مضادة‪ ،‬كما هو الحال مع الحجارة والرمل والنبات‬          ‫والانقراض والانتظام والانفلات حيث الأول يفضي‬
                                    ‫والحيوان(‪.)15‬‬       ‫إلى الآخر في شكل حركة دورانية «وعند كرة القمر‬
‫وهذا ما أوصل الفارابي إلى القول في أجزاء النفس‬          ‫ينتهي وجود الاجسام السماوية وهي التي بطبيعتها‬
 ‫الإنسانية وميكانيزم قواها الذاتية‪ ،‬فأما القوة الأولى‬                                  ‫تتحرك دو ًرا»(‪.)10‬‬
   ‫في الإنسان فهي القوة التي يتغ َّذى منها ويسميها‬
    ‫الفارابي (القوة الغاذية)‪ ،‬ثم تأتي (القوة الحاسة)‬   ‫وكل شيء ناقص في طبعه بحسب عناصر الطبيعة‬
  ‫التي يحس بها الإنسان الحرارة والبرودة والطعوم‬            ‫الأربعة النار والماء والتراب والهواء‪ ،‬وأن الشيء‬
  ‫والروائح والألوان‪ ،‬ويشتاق ويكره‪ ،‬ثم تأتي (القوة‬
      ‫الناطقة) التي يميّز عبرها بين الجميل والقبيح‪.‬‬    ‫عبارة عن مادة وصورة‪ .‬وهو يق ِّرب ذلك بالتشبيه بـ‬
‫ولكن الفارابي يرى أن هذه القوى الإنسانية الثلاث‬        ‫«شيئين أحدهما منزلته منزلة خشب السرير‪ ،‬والآخر‬
   ‫هي واحدة‪ ،‬مضي ًفا إليها قوتين هما (قوة متخيلة)‬
    ‫و(قوة نزوعية)‪ ،‬فأما القوة المتخيلة فتشترك مع‬         ‫منزلته منزلة حلقة السرير»(‪ .)11‬فيكون الخشب هو‬
  ‫قوة الحاسة‪ ،‬وأما القوة النزوعية فتشترك مع القوة‬       ‫الهيولى والحلقة هي الصورة والهيئة‪ .‬ويتطلب القول‬
‫الغاذية بالمحاكاة‪ .‬وبهذه القوى يتغير مزاج الإنسان‪،‬‬      ‫في المقاسمة بين المراتب والأجسام ترتيبها تنازليًّا‬
 ‫ومرجع ذلك التغير الدماغ الذي عليه أن يخدم القلب‬        ‫أو تصاعد ًّيا بمعنى «أن نق ِّدم أو ًل أخ َّسها ثم الأفضل‬
  ‫بأن يجعل حرارته معتدلة‪ ،‬ويجعل بعض الأعصاب‬             ‫فالأفضل إلى أن ننتهي إلى الذي هو أفضلها الذي لا‬
‫لزجة مغارزها في النخاع‪ ،‬وبعضها الآخر بلا لزوجة‪.‬‬         ‫أفضل منه‪ ،‬أو نرتب أو ًل أفضلها لننتهي إلى أنقصها‬
  ‫ويأتي بعد الدماغ الكبد والطحال ثم أعضاء التوليد‪.‬‬
  ‫وإذا كان الشيء كجس ٍم منفرد له مادة وصورة؛‬                                   ‫وهكذا تنشأ الأضداد»(‪.)12‬‬
   ‫فإن القوة التي تعد المادة هي (قوة الأنثى) والقوة‬               ‫ولا يقتصر كلام الفارابي على الأشياء‬
‫التي تعطي الصورة هي (قوة الذكر)(‪ )16‬وكان الشيخ‬            ‫والموجودات والأجسام الأرضية‪ ،‬وإنما يتجاوزها‬
 ‫ابن عربي قد قال‪« :‬الأرواح جنود مجندة‪ ،‬فما تشابه‬       ‫إلى الموجودات السماوية التي جعلها في تسع مراتب‬
                ‫منها ائتلف وما تنافر منها اختلف»‪.‬‬          ‫يشتمل عليها جسم واحد كروي في حركة دورية‬
   ‫لكن الفارابي ‪-‬وبنا ًء على فرضية أن الأصل هو‬
 ‫المادة والتابع هو الصورة‪ -‬لم يقل بأن الأنثى أسبق‬                                           ‫سريعة ج ًّدا‪.‬‬
  ‫وجو ًدا من الذكر‪ ،‬ومع ذلك ق َّدم الرحم الذي هو آلة‬        ‫وهذه الأجسام مشتركة بطبيعة واحدة وهي‬
‫الأنثى على المني الذي هو آلة الذكر‪ ،‬فقال‪« :‬فإذا أخذ‬           ‫الحركة الدورية في اليوم والليلة مع تباين في‬
   ‫الدم عن المني القوة التي يتحرك بها إلى الصورة‪،‬‬      ‫جواهرها وأعراضها «وجنس هذه الأجسام كلها واحد‬
   ‫فأول ما يتكون القلب وينتظر بتكوينه تكوين سائر‬          ‫ويختلف في الأنواع (‪ )..‬فالشمس لا يشاركها في‬
‫الأعضاء ما يتفق أن يحصل في القلب من القوى‪ ،‬فإ ْن‬       ‫وجودها شيء آخر من نوعها وهي منفردة بوجودها‬

‫حصلت فيه مع القوة الغاذية القوة التي بها تعد المادة‬                     ‫وكذلك القمر وسائر الكواكب»(‪.)13‬‬
                                                           ‫وهذه الأجسام فاعلة بالضياء ُمش َّعة بالفعل أو‬
                                                         ‫مملوءة نو ًرا ذات حركة دورية‪ .‬ولهذا تتبدل نسبها‬
                                                            ‫دائ ًما بالسرعة أو بالبطء‪ ،‬مؤك ًدا أن كروية القمر‬

                                                              ‫أسرع حركة من كروية زحل‪ .‬وأولى الفارابي‬
   21   22   23   24   25   26   27   28   29   30   31