Page 30 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 30
العـدد ١٩ 30
يوليو ٢٠٢٠
ويقينيات الغيب ،لتكون الحقيقة واضحة جلية بلا والوحدانية والتضادية بين الروح والجسد والعقل
قناع ولا مخاتلة .وتجدر الإشارة إلى أن الأدب
والقلب والذكر والأنثى والأجسام في أرضيها
بأجناسه المختلفة لا يخرج عن هذا التوصيف كونه
يهدف إلى بلوغ الحقيقة أي ًضا ووسيلته المخيلة وسماويها والطبيعة وثنائية تشكيلها .فأثبت الربوبية
الإبداعية .ومثالنا على ذلك هذا المقطع من رواية
للذات الإلهية وصفاتها وأسمائها .وأنها الموجود
(موبي ديك) لهرمان ملفل وهو يناقش كيف أن الذات
الإنسانية ضعيفة مهما بلغت من قوة ،منقادة مهما الذي لم يسبقه موجود وهذا ما ينزهها عن اشتراك
حاولت أن تقود ،بعكس الذات الإلهية التي لا يعتورها موجود آخر معها ،مؤش ًرا على مواضع التشابه بين
ضعف ولا انقياد «وأنتم تعلمون علم اليقين أنه إن الموجودات كنباتات وحيوانات وجمادات ،ناهيك عن
جعل أحد الناس أم ًرا متسل ًطا على بعض إخوانه من كونه دلَّ َل على الكيفية التي بها تعمل عناصر الطبيعة
بني الإنسان ،ووجد هذا الأمر أحد مأموريه يتفوق
عليه فيما تبعثه الرجولة الحق من زهو واستعلاء، الأربعة وعناصر الإنسان ،فس ّمى القلب بالرئيس،
فليس من الشاذ في عالمنا هذا أن يضطغن الأمر وجعل الروح لا الجسد هي مملكته أو مدينته
نحو ذلك المأمور كراهية ومرارة لا ُتكبحان ،وإذا
الفاضلة التي أرادها جنة أرضية يتساوى فيها البشر
أمكنه وضعه طأطأ من شموخ ذلك الملازم المرؤوس
وانحنى عليه د ًّقا وسح ًقا وجعل مما كان حصنًا وتنعم الموجودات بحريتها وتذعن طائعة لموجود
سام ًقا كومة محقورة من تراب»(.)35
بهذا تغدو منهجية العلوم في تطورها تراكمية أول وأكبر.
حيث السابق يبني على اللاحق ،والحديث يطور وبهذا تكون منهجية الفارابي عقلانية ح ًّقا ،كونها
القديم ويؤسس عليه .وهذا يدلل على عبقرية الأولين تساعد المتأمل فيها على معالجة الأفكار تواف ًقا
وطول باعهم في التدليل والمحاججة والمقدار الذي
فيه جعلوا العقلي يتغلغل في المادي ،حتى توصلوا وتأيي ًدا أو تضا ًّدا واختلا ًفا ،وهذه المنهجية هي في
إلى أن الدين فطرة قبل أن يكون اكتسا ًبا ،وأن العلم الأصل علمية توفق ما بين الفلسفة والدين في شكل
يؤسس على هذه الفطرة .والفلسفة تنبع كتجل من
ميكانيزمي متحد لا ثغرة فيه ولا فجوة تعتريه.
تجليات الفطرة في تماشيها مع كل ما هو منطقي
وعقلي .بعبارة أخرى أن بالدين تتط َّور الأسس أ َّما المنهج العلمي الذي ينتهجه فيلسوف اليوم
فهو بالتأكيد مختلف ومتطور لكنه ليس أكثر فاعلية،
المعرفية للعلوم وترتقي اتجاهات الفلسفة ومدارسها
ونظرياتها .والسبب أن ك ًّل من الدين والفلسفة كونه لم يصل إلى تلك الدرجة من التوافق ما بين
يخوض في الموجودات بعقلانية ويستكنه المغيبات الدين والفلسفة.
بوحيانية ،وبذلك يتوق الإنسان للرقي في حياته،
وتظل المنهجية العلمية قائمة على التعليل
سعيًا إلى التقدم في معارفه ،حسية كانت أو تجريبية،
وتعمي ًقا لتخصصاته الصرفة والإنسانية. والملاحظة والتدقيق وتوظيف العقل وتأصيل ما هو
الخاتمة ثابت وتدعيم ما هو متغيِّر في سبيل بلوغ الحقائق.
وهذا ما ا َّتسم به منهج د.عمرو شريف فكانت رحلته
يتبيَّن لنا مما تقدم أن منهجية العلوم متقاربة في
قديمها وحديثها ،علميها وفلسفيها ،والسبب أن هذه في مديات العلم تحمل الدين يقينًا متحاشية الجدال
المنهجيات وسائل لا غايات ،وهي أدوات تضمن الفلسفي ،وكل ذلك في إطار تجريبي يخوض في
للباحثين -علماء وفلاسفة -فرص َة التخطيط في
إثبات الفرضيات وصياغة النظريات .أما الغاية فتظل قضايا الإيمان والإلحاد والعقل والقلب ومسائل
الجينيات والكرومسومات ،مستثم ًرا قصة حي بن
يقظان ،واق ًفا عند التحدي الذي أوصل حي إلى فهم
الوجود .وكيف أق َّر بالخضوع لمعبود واحد وأن
الروح هي جوهر الإنسان وليس جسده ولهذا هي
باقية بعد الموت ،بينما يفنى الجسد ويتحلل .والنتيجة
التي أفضت إليها كل تلك النقاشات أن الربوبية
والوحدانية هي لله تعالى وحده الذي أذعن لقدرته
َي ْخ َشى «إ َّن َما تعالى قبل غيرهم توكي ًدا لقوله االل َّعَللم ِما ُْءن
ِع َبا ِد ِه ا ْل ُع َل َما ُء»(.)34
وبهذا يتلاقى منطق العلم مع جدل الفلسفة