Page 23 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 23
23 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
بناء على هذا أعتقد أن بوسعنا أن نقرأ كل منضطبة ،علميًّا وفنيًّا ،للتعامل الحصيف الواعي
مجموعة قصصية في إمعان وتركيز شديدين ،ثم مع أشتات من القصص .ولا يعني هذا الانضباط
نجلس لنتأمل نقطة البداية التي ينطلق منها النقد، بالضرورة التعبير الكامل عن كل ما ورد في هذه
أو الإحالة التي يعود إليها .لكن هذا يتطلب التمهل القصص من تفاصيل الحكايات ومواقف الشخصيات
في التفكير الذي يعقب القراءة ،موضو ًعا وفنًّا ،أو ونفسياتها ،ومضمون الأفكار واتجاهاتها ،ومسارها
الفني أو بنائها ،إنما يعني بالقطع البحث عن نقطة
محت ًوى وشك ًل ،وعندها قد نضع أيدينا على ما التقاء ،أو مرجع انتهاء ،لكل قصص المجموعة على
يجب أن نبدأ منه أو نخلص إليه ،وهو الذي يجعل توزعها وتفرقها وتشتتها ،سواء تعمد كاتبها هذا أو
بمقدورنا أن ننظم القصص كافة ،على اختلاف أنها أتت على ذلك النحو دون قصد منه.
عوالمها وتعدد شخصياتها وزمانها ومكانها ،في إن كثي ًرا من الأفكار والتص ُّورات النقدية المهمة
الهائمة طالما تاقت إلى نقطة مركزية تنطلق منها أو
مسرب واحد ،لا يزعم بالضرورة أنه يمثل كل إطار مرجعي تنتهي إليه ،وعند الحد الأدنى سعت
تفاصيلها ،إنما بوسعه القول إن قد وضع يده على إلى ما تعارف عليه الناس بأنه «قواس ُم مشتركة»
وإن كان كل هذا يرد إلى عالم الأفكار والمعارف
الصورة الكلية ،أو المعنى الجامع ،الذي يشغل أكثر من ارتداده إلى عالم الفن .لكن منذ متى كانت
الكاتب في شعوره أو لا شعوره. الأبواب مغلقة تما ًما بين ما هو معرفي وما هو فني؟
إن النقد الأدبي وإن تعلَّق بالأساس بتتبع وسبر
لا يعني هذا أن رؤي ًة نقد َّي ًة من هذا القبيل بمكنتها أغوار وكشف أبعاد فن يتسم بالمراوغة والتمرد
أن تحيط وعيًا ونق ًدا بكل تفاصيل القصص التي
تحويها المجموعة ،لكنها على الأقل تقدم مفتا ًحا والهيام فإنه يريد في أدنى محاولاته أن يروض
مه ًّما لقراءتها وإدراك معانيها ومراميها ،وبالتالي المراوغ ،ويهيئ المتمرد للانسجام مع تصورات
يقررها التفكير العقلاني ،الذي لا تعني عقلانيته،
يمكن البناء عليها في فهم التطور الذي ارتقاه الكاتب بأي حال من الأحوال ،مجافاة شروط الفن ،إنما
في مسيرته ،أو اللبنة التي وضعها في مسار السرد
تفهمها وتقديرها وعدم الجور عليها.
القصصي برمته. وهذه «الفنية» أو «الأدبية» هي التي يجب أن تكون
وقد يحال هذا المفتاح إلى نوع أو جنس من قبيل
المرأة والرجل ،أو قيمة إنسانية مثل الحرية والعدل أصل أو أساس أي تصور أو تفكير يتعلق بالبحث
والمساواة والانتماء ،وحالة كالأمل والرجاء واليأس عن «النقطة المركزية» أو «الإطار المحال إليه»،
والفرح والحزن ،ومجتمع نعرفه كالحضر والبداوة
والقرية والمدينة ،وموقف فني وفلسفي مثل العبث وهي مسألة قد تكون مستقرة في لا شعور الكاتب
وهو يبدع قصصه ،فهي وإن تنوعت عوالمها بنت
والتحقق والغياب والحضور والموت والحياة قلم واحد يعبر عن شعور واحد ،ولا شعور واحد
والتجديد والتقليد ،أو تنصرف إلى أشياء ومعان أي ًضا ،حتى وإن ارتقى ذهن الكاتب من مرحلة إلى
وحالات أخرى يوزعها الكتاب والنقاد والعارفين إلى أخرى ،وتطورت كتاباته بقدر تعدد تجاربه ،واتساع
مسارات متعددة. مطالعاته ،ورغبته في تجويد نصه.
لا يعني هذا أن نحدد قيمة أو نوع أو حالة ما وبذا فإن الانطلاق من نقطة ما ،أو الانتهاء إلى
ثم نجبر القصص على السير نحوها قس ًرا ،إنما إطار معين في التعامل مع أشتات من القصص لا
علينا أن ندع القصص نفسها تبوح لنا بمكنون يعني بالضرورة جو ًرا على أدبية الأدب ،أو إجبار
سرها ،وعلينا أن نصبر حتى نصل إليه أو نقترب الفن على الخضوع إلى افتراضات العلم وتصورات
الفلسفة ،إنما هو امتثال للتعامل الطبيعي مع نص
منه ،وعندها بوسعنا أن نبدأ في النقد ،أو إن واحد لكاتب واحد ،مهما تعاقبت خبراته وتعددت
صح التعبير ،نشرع في الفهم والتعبير والتقريب
رغباته في الانتقال من عالم فني إلى آخر.
والتصوير والتحليل ،حتى لا تقل أو تتضاءل
مزاعمنا حول إمكان نقد قصص مجموعة كاملة،
تتع َّدد قص ُصها من مختلف الزوايا وإن كان كات ُبها
بالطبع شخ ًصا واح ًدا