Page 18 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 18

‫العـدد ‪١٩‬‬   ‫‪18‬‬

                                                      ‫يوليو ‪٢٠٢٠‬‬

 ‫كثيرة تحت عنوان عريض اسمه «أدب الحرب»‪ ،‬لكننا‬             ‫إن الملاحم الكبري تلك ما كان لها أن تكون إلا‬
 ‫نرمي مباشرة إلى الشهادات والإفادات الشفهية التي‬         ‫إذا كانت هناك حكايات صغيرة أو مفصلة أو ذاتية‬

    ‫يدلي بها الجنود والضباط المقاتلون‪ ،‬أو تلك التي‬         ‫تخص أولئك الذين كانوا في ميادين القتال‪ ،‬ولم‬
  ‫يمكن أن يدونوها على هيئة «يوميات» في مذكراتهم‬        ‫ينتظر أغلبهم شيئًا سوى أن ينتصر لبلاده‪ ،‬دون أن‬
 ‫الخاصة‪ ،‬وبوسع بعضهم أن يسعى إلى نشرها فيما‬
                                                         ‫يفصل في داخله هذا عن وجوده‪ ،‬لاسيما أن الفهم‬
                      ‫بعد‪ ،‬إن تهيأت الظروف لهذا‪.‬‬      ‫والتصور والتكنيك العسكري قائم على أساس الحفاظ‬
  ‫إن المعارك كلها يمكن التعبير عنها أدبيًّا في عمل‬
                                                       ‫على حياة المقاتل‪ ،‬أ ًّيا كان موقعه ومكانه‪ ،‬فله وحده‬
       ‫ملحمي كبير مثلما تناول ليو تولستوي الحرب‬       ‫صممت الخطط القتالية‪ ،‬وصنعت أدواتها من المسدس‬
 ‫النابليونية ضد روسيا القيصرية في روايته الضخمة‬
  ‫«الحرب والسلام»‪ ،‬ويمكن أن تكتب بعي ًدا عن الأدب‬                                        ‫إلى الصاروخ‪.‬‬
                                                         ‫بذا فإن ما يسمعه المقاتل ويراه ويلمسه ويشمه‬
    ‫في مذكرات سردية للقادة العسكريين أنفسهم‪ ،‬أو‬       ‫ويتذوقه لا يمكن تجاهله ونحن نؤرخ للحرب‪ ،‬فهي إن‬
     ‫توجد في التقارير والوثائق الميدانية التي تجمع‬      ‫كانت رواية طويلة أو ملحمة‪ ،‬فإن صورتها الكلية لا‬
       ‫كأرشيف رسمي كامل للحرب‪ ،‬وفي التغطيات‬           ‫يمكن أن تستقيم إلا إذا شارك في صناعتها المقاتلون‬
                                                        ‫الأفراد الذين خاضوا المعارك بالفعل‪ ،‬في النجاد أو‬
  ‫المتلاحقة للمراسلين الحربيين‪ ،‬لكننا لا نقصد أي ًضا‬      ‫الوهاد‪ ،‬ثم علينا أن ننصت إلى كل ما قالوه لنا‪ ،‬أو‬
     ‫كل ذلك في هذا المقام‪ ،‬إنما نقصد نثار الحكايات‬     ‫استغرقوا في روايته عما فعلوه وسط النيران والدماء‬
    ‫وأشتاتها‪ ،‬التي يعبر عنها المقاتلون سر ًدا بعد أن‬
                                  ‫تسكت المدافع‪.‬‬                                       ‫والضجيج الهائل‪.‬‬
    ‫إن كثي ًرا من هذه الحكايات تصفو وتنجلي بعد‬               ‫إن الحروب‪ ،‬لاسيما الحديثة والمعاصرة‪ ،‬لا‬
                                                       ‫تخاض إلا في ظل خطة حربية محكمة‪ ،‬ينتظم الأفراد‬
   ‫مرور السنين‪ ،‬وعودة الجنود إلى حياتهم الميدانية‬        ‫في تنفيذها‪ ،‬ويصبح لكل منهم دور محدد في هذا‪،‬‬
       ‫منغمسين في أعمالهم المدنية وتربية أولادهم‬          ‫يجب عليه ألا يتع َّداه‪ ،‬وإلا يكون قد خالف الأوامر‪،‬‬
                                                            ‫أو تصرف بما لم تحدده القيادة الميدانية‪ ،‬وفي‬
    ‫وأسفارهم وأوقات فراغهم‪ ،‬ويؤدي انجلائها إلى‬             ‫هذا مخاطرة لا يقدر هو آثارها‪ ،‬لأنه وهو يؤدي‬
      ‫التخلص من تفاصيل كثيرة غارت في الذاكرة‪،‬‬            ‫دوره المرسوم المحتوم عسكر ًّيا لا تتوافر له كافة‬
                                                      ‫المعلومات عن الخطة الكاملة‪ ،‬ولا يعرف كل التفاصيل‬
    ‫لتخلص الحكايات من العوالق والشوائب التي قد‬             ‫التي تجري في مسرح العمليات بطوله وعرضه‪.‬‬
‫تكون بنت الهواجس والمخاوف والرغبات والبطولات‬                 ‫لكن مهما كان تحكم القادة وسيطرتهم على‬
                                                        ‫الميدان‪ ،‬وهو أمر ضروري في أي معركة‪ ،‬فإن لكل‬
    ‫والعواطف بما تنطوي عليه من ميول وانحيازات‪،‬‬           ‫فرد مقاتل حكايته‪ ،‬حتى لو خاض مع رفاقه تجربة‬
   ‫وبذا يمكن لصاحبها أن يستعيدها على نحو مكثف‬          ‫واحدة‪ ،‬ومارسوا الفعل نفسه‪ ،‬فهو في النهاية يسمع‬
   ‫أمام سامعيه‪ ،‬أو يكتبها على الورق فيقرأها الناس‪،‬‬      ‫بأذنيه‪ ،‬ويرى بعينيه‪ ،‬ويعمل بيديه‪ ،‬ويقدر ما يجري‬
  ‫وتصير في كل الأحوال جز ًءا من التاريخ العسكري‬        ‫وفق تصوره الخاص النابع من خبرته وما في رأسه‬
                                                          ‫من معارف‪ ،‬وفي وجدانه من قيم‪ ،‬وما يدركه من‬
                         ‫الاجتماعي للأمم والدول‪.‬‬      ‫تصورات هي بنت خبرته وثقافته‪ ،‬ولذا فإن طلبنا منه‬
  ‫وبالطبع فإن الفرد الواحد لا يسرد حكاية‪ /‬قصة‬            ‫بعد أن تضع الحرب أوزارها‪ ،‬أو حتى أثناء دوران‬
                                                      ‫المعارك أن يحكي لنا تجربته فسيقصها على أسماعنا‬
     ‫واحدة‪ ،‬فهو‪ ،‬على قدر مدة انخراطه في القتال أو‬
  ‫أعمال الإمداد والتموين والاستطلاع‪ ،‬يكون قد سمع‬                        ‫بطريقة تختلف عن رفيق سلاحه‪.‬‬
‫ورأى وعمل الكثير من الأفعال‪ ،‬وقابل شخصيات عدة‪،‬‬          ‫إننا لا نقصد بهذه القصص تلك التي يبدعها أدباء‬
 ‫من رفاقه‪ ،‬أو حتى من أعدائه‪ ،‬الذين كانوا يحرصون‬
                                                           ‫شاركوا في المعارك‪ ،‬مثلما حدث في كتابات أمم‬
       ‫على قتله بقدر حرصه على قتلهم في الميدان‪.‬‬
      ‫ولا يمكن لأحد من هؤلاء أن يستعيد الوقائع‬
   ‫والمجريات كما هي‪ ،‬لاسيما بعد مرور زمن طويل‬
    ‫على حدوثها‪ ،‬إنما قد يختلط بها شيء من مخيلته‪،‬‬
   ‫وربما رغباته وأشواقه في تصوير دوره على نحو‬
   13   14   15   16   17   18   19   20   21   22   23