Page 15 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 15

‫جاءت الأحداث السياسية الفارقة‬                    ‫في بطء كي تشكل اللوحة الاجتماعية‬
                                                   ‫الكبرى‪ ،‬وبعضها لا يعدو أن يكون‬
‫بوصفها «سرديات كبرى» لتج ِّدد‬

‫نشاط الحكاية أو القصة المحكية‪،‬‬                   ‫تأكي ًدا لما هو موجود‪ ،‬أو تجوي ًدا له‪،‬‬
                                                 ‫وهي برمتها تعكس مواقف الناس مما‬
‫فالثورات والانتفاضات والحروب‬                          ‫يجري لهم وبهم ومعهم وفيهم‪.‬‬

‫الأهلية والاضطرابات السياسية‬                     ‫وحتى أيام الحوليات التاريخية‬

‫الواسعة والفوضى هي أشبه‬                          ‫كانت حكايات المؤرخين تقتصر على‬
                                                 ‫يوميات الحكام والأمراء وقادة الجند‬

‫بسرديات كبرى تحوي في باطنها‬                      ‫وكبار التجار والوجهاء‪ ،‬وتكون رتيبة‬

‫نثاًرا من حكايات تفصيلية تخص‬                     ‫بطيئة‪ ،‬تتعلق بموت أبطال التاريخ‬
                                                 ‫هؤلاء أو قيامهم بفعل لافت‪ .‬لكن‬

‫كل من شارك فيها أو شهد عليها‬                     ‫هذه اليوميات كانت تلتهب بحكايات‬

‫أو سمع عنها‬                                      ‫مختلفة في أيام الحروب والهبَّات‬
                                                 ‫والكوارث الطبيعية والفتن فتتدفق‬

                                                 ‫سخية على الورق‪ ،‬وفي الوقت نفسه‬

                                                 ‫تنبض بحياة حقيقية‪ ،‬وتفارق الطابع‬
‫التسجيلي الباهت والمحايد والبارد أحيا ًنا الذي تأخذ تنهمر الشهادات يثرثر بها المحتشدون في الميادين‪،‬‬
‫حين تكل الحناجر من فرط الهتاف‪ ،‬فك ٌّل يحكي ما‬
                                                 ‫في الأوقات العادية‪ ،‬حتى أنها تبدو لوحات ثابتة‬
‫جرى له يوم الزحف الأكبر في الشوارع‪ ،‬والبعض‬
                                                                           ‫معلقة على جدران كالحة‪.‬‬
‫يرددون شائعات أو أخبار خاصة وصلتهم‪ ،‬أو ما‬
                                                 ‫وزمن ثوراتنا نحن ليس استثناء من هذا‪،‬‬
‫رأوه وسمعوه في مناطق معزولة‪ ،‬أو حتى يسردون‬
                                                 ‫فالحكايات الرتيبة والتقليدية سرعان ما تختفي‪ ،‬أو‬
‫تتوارى في زاوية بعيدة مقصية‪ ،‬وربما منسية أحيا ًنا‪ ،‬آراء الأصحاب والأقارب فيما يجري‪ .‬يخرج كل هذا‬
‫مفسحة الطريق لقصص أخرى ذات إيقاع سريع حتى من الأفواه على هيئة حكايات قصيرة تصور ملم ًحا أو‬
‫مشه ًدا أو زاوية‪ ،‬وتعبر عن حال أو موقف أو مسار‬   ‫يكون بمكنتها مواكبة الأحداث المتدفقة‪ ،‬التي تنطوي‬
‫واختيار‪.‬‬
‫هذا الخروج لا يكون بالضرورة منضب ًطا‪ ،‬يبدأ من‬    ‫على صور وكلمات وإشارات وإيماءات‪ ،‬ما إن تلوح‬
‫نقطة ويصعد إلى الذروة‪ ،‬فمن يحكون وقتها يشغلهم‬
                                                 ‫حتى تختفي ويأتي غيرها‪ .‬ونظ ًرا لهذا تكون الحكاية‬
                                                 ‫عند صاحبها ذات قيمة كبرى‪ ،‬إن كان وحده بطلها أو‬
‫الشاهد عليها‪ ،‬لاسيما إن تعلقت بحدث مهم‪ ،‬يشغل الإخبار والبوح والتعبير عن الفن‪ ،‬وقد لا يدري أغلبهم‬
‫الذي يؤرخون ليوميات الثورة‪ ،‬أنه يصنع فنًّا شفهيًّا لا غنى عنه لتأدية وظائف معنية‬
‫مثل التحفيز والتصبير والتسرية والتقضية للوقت في‬
                                                 ‫أو حين يتم استدعاؤه‬
‫كشهادة في ساحة القضاء الاعتصامات والمرابطة‪.‬‬
‫وإن أردنا أن ندرك مدى أهمية هذه الوظائف‬
                                                 ‫إن كان الحدث يتلاقى فيه‬
‫التي تؤديها الحكايات فلنتخيل أن الجموع الغفيرة‬   ‫قاتل ومقتول‪ ،‬أو معت ٍد‬

‫المحتشدة في ميدان ما‪ ،‬واهبين وجودهم لعمل ثوري‬    ‫ومصابون‪ ،‬أو مخرب‬

‫أو احتجاجي‪ ،‬قد جلسوا صامتين طوال الوقت‪ ،‬ينظر‬     ‫وحطام‪.‬‬

‫كل منهم في عيون من حوله‪ ،‬دون أن ينطق ولو بكلمة‬   ‫لم يكن الأمر يستدعي‬
‫واحدة‪ ،‬فهل بوسع هؤلاء أن يصنعوا فع ًل مقاو ًما‬
‫مستم ًّرا؟‬                                       ‫بالطبع انتظار الاستدعاء‬

‫إن الحكايات الصغيرة أيام الثورات تؤدي دو ًرا‬     ‫إلى محاكم‪ ،‬فهذا إن حدث‬

                                                 ‫يكون للقلة القليلة‪ ،‬إنما‬
   10   11   12   13   14   15   16   17   18   19   20