Page 108 - Merit El-Thaqafyya 37 jan 2022
P. 108

‫العـدد ‪37‬‬   ‫‪106‬‬

                                                      ‫يناير ‪٢٠٢2‬‬

‫ويكون تقرير ًّيا في لغته وتعبيره ودقي ًقا في أسلوبه‪،‬‬    ‫ولدت آثا ًرا نفسية في حياة ساكنيها لأنهم تطبعوا‬
   ‫ومنها ما يتخذ صورة الانزياح واختراق الحدود‬            ‫بشخصيتها‪ ،‬وتماهوا معها‪ ،‬في الصبر والقساوة‬
      ‫من أجل تقديم الجديد مراف ًقا تحولات الواقع‬      ‫والحرية‪ ،‬والناس الذين أدركوا حقيقة التغيير المؤلم‬
            ‫الراهن‪ ،‬وتداخل المشاعر والأحاسيس‪.‬‬           ‫والقاسي الذي اكتسح الأرض السمراء والتجليات‬
             ‫ب‪ -‬أنسنة البحر في رواية جوكات‬
                                                           ‫الناجمة عن تغييره‪ ،‬يشعرون أن وطأة التغيير‬
‫البحر‪ :‬يقبع شما ًل مكش ًرا عن أنيابه‪ -‬يبتلع كل عام‬           ‫شديدة الوقع على قلوبهم‪ ،‬يدركون أن المكان‬
‫مساحات شاسعة من الساحل الرملي‪ -‬يقترب يو ًما‬
                                                        ‫أصبح في حالة سيئة خطيرة تتناقض مع ذواتهم‬
   ‫بعد يوم‪ -‬حال البحر وغضباته‪ -‬يتخطى أسوار‬               ‫وطباعهم‪ .‬فالصحراوي يخرج للأرض السمراء‪،‬‬
  ‫بيوتهم‪ -‬يطل عليها باكسار‪ -‬هاج وطغى‪ -‬يبتلع‬                ‫يتجول بكل حرية في فضائها الرحب الشاسع‪،‬‬
                                                          ‫تلك صورة مرتسمة في ذاكرة ساكنة الصحراء‬
    ‫بعض ما كان له في مد شاهق كالطود العظيم‪-‬‬
   ‫يعود منحس ًرا كسيف الخاطر‪-‬ينظر إلى المدينة‪-‬‬             ‫الجمعية‪ ،‬والتي حرموا منها‪ ،‬إذ تأكدوا أنها لم‬
                                                         ‫تعد تسمح لهم بالعيش والتجوال في ربوعها‪ ،‬لا‬
       ‫متحينًا فرصة جديدة‪ -‬يغسلها من أدرانها‪.‬‬             ‫للإنسان ولا للحيوان بأمان وسلام وطمأنينة‪،‬‬
‫إن استخراج النماذج من الرواية المدروسة‪ ،‬ورصد‬
                                                           ‫فحينما تحل المأساة بقساوتها في روح المكان‪،‬‬
   ‫علاماتها الدالة‪ ،‬يقودنا إلى تكوين الأنساق لبلوغ‬      ‫فإن الخلل يتسرب في الشخصيات أيضا‪« :‬تصور‬
   ‫المعنى‪ ،‬لذا «فكل ما اتخذ في النص أداة لتوصيل‬         ‫الرواية صدمة الذات أمام هول الواقع المُر الصلب‬
  ‫المعاني ومخاطبة القارئ أو البوح عن الذات‪ ،‬فهو‬
 ‫موضوع للدراسة السيميائية»(‪ ،)10‬إذ يعتبر مفهوم‬              ‫المظلم المحيط بها في رؤية فجائعية تتأتى من‬
‫الأنسنة من المصطلحات الفلسفية الحديثة المعاصرة‬         ‫الإحساس بعمق الهوة بين عالم الذات وبين العالم‬
                                                        ‫الخارجي الذي يخالفها ويلولنها بعفويته وترديه‬
      ‫التي اعتبرت الإنسان محور الكون‪ ،‬ومن هنا‬         ‫العبثي المطلق‪ ،‬وبذلك تعكس إحساس الكاتب بواقعه‬
    ‫انتقلت إلى الحقل الثقافي الأدبي باعتبارها تقنية‬
‫فنية يعتمدها المبدع المؤلف لإضفاء اللمسة الجمالية‬          ‫وثقل الخيبات على نفسه وذهنيته‪ ،‬وتعيد إنتاج‬
                                                          ‫الواقع في صور متخيلة عما وصلته المأساة»(‪،)9‬‬
      ‫على نصه‪ ،‬لما تتميز به من قدرة على الإفصاح‬
      ‫والتعبير عما يريد المبدع الجهر به‪ ،‬والكشف‬              ‫وهو بالفعل ما أجبر الكاتبة على طرح قضية‬
   ‫عنه في السياق النصي‪ .‬حيث أخذتنا الكاتبة عبر‬         ‫الخوف والاضطهاد والقهر والتهميش والاستغلال‬
     ‫متن روايتها إلى عالم الصيادين‪ ،‬وأهل جوكات‬
 ‫الفقراء البسطاء‪ ،‬الذين يقتاتون على بلح النخل وما‬        ‫الذي عاشه أهل مدينة جوكات منذ تاريخ مصر‬
  ‫يجنونه من أسماك وخيرات البحر‪ ،‬وكيف يعيش‬               ‫القديم إلى يومنا هذا‪ ،‬في خطابها الروائي‪ ،‬وألزمها‬
    ‫بينهم العبرانيون‪ ،‬فقد أثروا في أسلوب عيشهم‬        ‫توكيل مهمة التنديد بقساوة المكان وخطره للأرض‬
     ‫وطوروا الزراعة والطب والتجارة وغيرها من‬
    ‫الأمور بمجاورتهم‪ ،‬وصلت إلى تغيير ملتهم من‬                                          ‫للمدينة نفسها‪.‬‬
  ‫الفرعونية إلى اليهودية‪ ،‬وكيف استغلهم أهل الدار‬      ‫وتضمين الكاتبة المصرية لهذا النسق جعلها تكسر‬
‫الحمراء بسبب خوفهم من اللعنة والغرق‪ ،‬واستلبوا‬          ‫العلاقة الكلاسيكية التقليدية داخل السرد العربي‪،‬‬
  ‫الأراضي والممتلكات من ذهب وفضة وطمرها في‬             ‫بين الظواهر والأشياء‪ ،‬إذ حولت من خلالها مدينة‬
                                                       ‫جوكات إلى كائن حي حزين‪ ،‬يشعر‪ ،‬يئن‪ ،‬و يتألم‪،‬‬
        ‫الأرض إلى جانب ذهب الجدات المصريات‪.‬‬
     ‫وتتميز الكتابة الروائية عند إنتصار عبد المنعم‬      ‫ويصرخ‪ ،‬ويندد بكل ما عجز بعض أفراد المجتمع‬
 ‫بقدرتها على جلب مجموعة من الرموز والإشارات‬             ‫الصحراوي ممن عانوا التعبير والإفصاح عنه‪ ،‬في‬
     ‫الإيحائية الدلالية‪ ،‬عن طريق أنسنة المكان بلغة‬      ‫فترة ممتدة من تاريخ مصر منذ عهد الفراعنة إلى‬
 ‫أدبية غنية بالألفاظ والمترادفات‪ ،‬والتي تشكل مادة‬     ‫يومنا هذا‪ .‬كما أن العلاقة بين الواقع المعيش والذات‬
‫حكائية خصبة‪ ،‬تنهل منها الكاتبة‪ ،‬وتجعلها وسي ًطا‬
                                                          ‫الكاتبة والمتخيل الأدبي تتخذ العلامات والرموز‬
                                                            ‫عبارة عن صور (بلاغية) مختلفة عن بعضها‬
                                                           ‫البعض‪ ،‬منها ما يتخذ صورة المحاكاة للأشياء‬
   103   104   105   106   107   108   109   110   111   112   113