Page 39 - Merit El-Thaqafyya 37 jan 2022
P. 39

‫‪37‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

  ‫طيور البط والإوز والكراكي بعي ًدا عن ضفة النهر‬    ‫وقد وضع الكاتب عنوا ًنا مثي ًرا للرواية (الكراكي)‪،‬‬
   ‫انسحا ًبا نحو أجمات القصب‪ ،‬وقد هالها المشهد‪،‬‬    ‫رغم أن السرد يأتي على ذكر طيور أخرى إلى جانب‬
    ‫فتعالى زعيقها‪ ،‬وبدا اضطرابها‪ ،‬واشتد زحامها‬
‫وتدافعها واجتماعها ككتلة واحدة بين جذوع أعواد‬       ‫الكراكي‪ ،‬كالإوز والبط‪ ،‬فلماذا اختار الكراكي دون‬
‫القصب والأعشاب الطويلة»‪ .‬ويتكرر مشهد الخوف‬         ‫غيره من الطيور؟ ولكي نصل إلى رؤية الكاتب علينا‬
    ‫والفزع عند الكراكي حينما يلقي المبروك يحيى‬
 ‫جسده في الماء «وما إن يصل إلى النهر حتى يرمي‬                      ‫أن نقرأ دلالات الكراكي في السرد‪:‬‬
   ‫جسده الضخم في الماء‪ ،‬ويتقلب فيه فتنفر طيور‬       ‫في مفتتح السرد يشير الكاتب إلى «عتبة لابد منها»‬

                    ‫البط والإوز والكراكي فز ًعا»‪.‬‬        ‫كعنوان فصل‪ ،‬يشعر القارئ أنه منفصل عن‬
       ‫شاهد عبد الله أو عبودة عند الكنيسة بشر‬       ‫الرواية‪ ،‬ولكنه في صلب الرواية ومدخلها الحقيقي‬
  ‫كثيرون يتجمعون رغم المطر‪ ،‬ومن ضمنهم طيور‬         ‫للذكريات واستحضار الماضي‪ ،‬في هذه العتبة يذكر‬
‫الكراكي يقول‪« :‬والكراكي مبللة هائمة هنا وهناك»‪.‬‬      ‫الكراكي كجزء أساسي من المكان‪ ،‬حيث يأتي على‬
    ‫فهذه الطيور لا تخشى الناس مثل باقي الطيور‬       ‫ذكره كتاب جده «إلياس الشمندوري»‪ ،‬هذا الكتاب‬
      ‫والحيوانات‪« ،‬وهذه الدانية البادية هي طيور‬      ‫الذي وجده في صندوق تعاقب عليه أربعون ج ًّدا‪،‬‬
‫الكراكي تتقدم دونما خوف أو خشية‪ ،‬جميلة ملونة‬
 ‫كما لو أنها قطيع من الدهشة الآسرة يعلو ويهبط‪،‬‬         ‫وجميعهم تهيبوا من فتحه‪ ،‬حفا ًظا على أسراره‪،‬‬
 ‫يتسع ويضيق‪ ،‬يدنو ويبتعد‪ .‬إنها تقترب أكثر مما‬           ‫وخو ًفا من لعنته‪ ،‬وحين حاول فتحه بالمفاتيح‬
 ‫ينبغي‪ ،‬يا لروعتها الساحرة‪ ،‬لكأنها خراف جمعها‬        ‫التي ورثها عن عائلته (ترمز إلى مفاتيح العودة)‪،‬‬
   ‫المطر»‪ .‬وحينما يعود عبودة مغاد ًرا الكنيسة يجد‬    ‫لم تفتحه‪ ،‬مما يعني أن المفاتيح صدأت وما عادت‬
     ‫أشياء الناس كما هي تحرسها طيور الكراكي‪،‬‬
    ‫يقول‪« :‬لا أحد حولها سوى طيور الكراكي التي‬             ‫صالحة للاستعمال‪ ،‬فيجب البحث عن طرق‬
‫بدت أشبه بالحراس للمكان‪ ،‬كنت‪ ،‬وقد تعبت كثي ًرا‪،‬‬       ‫جديدة لفتحه‪ ،‬فما كان منه إلا كسر القفل وفتح‬
  ‫عزمت على العودة إلى البيت‪ ،‬فأمر بطيور الكراكي‬    ‫الصندوق (دلالة القوة لتحقيق العودة)‪ ،‬وحين نظر‬
   ‫وأحتك بها فلا تنفر مني ولا تخشاني‪ ،‬وخطاها‬          ‫في الصندوق كأنه وجد صندوق العجب‪ ،‬إذ وجد‬
                                                      ‫فيه أشياء كثيرة من ضمنها وثائق رسمية تثبت‬
                 ‫تزاحم خطاي في الدرب الضيق»‪.‬‬         ‫الحقوق في الأرض والوطن‪ .‬يروي الكتاب القديم‬
 ‫يقف عبودة في مدخل البيت مع الأب طنوس وأمه‪،‬‬             ‫سيرة حياة جده في المكان‪ ،‬قرب بحيرة طبريا‪،‬‬
‫وفي هذا اللحظة كان المطر يهمي‬                       ‫وقرب أجران المياه الكبريتية الساخنة‪ .‬كان الكتاب‬
                                                      ‫مم َّز ًقا في بعض صفحاته فلم يستطع الراوي أن‬
     ‫في الخارج «لا يشاغب على‬                           ‫يصلحها‪ ،‬ولكنه استكمل نقصها بما سمعه من‬
‫موسيقاه الرتيبة سوى اصطفاق‬
                                                                      ‫الروايات المنقولة عن الآخرين‪،‬‬
     ‫أجنحة طيور الكراكي التي‬                                         ‫ويشير إلى ما جاء في الكتاب عن‬
 ‫راحت‪ ،‬في الطرف البعيد‪ ،‬تلتقط‬                                        ‫طيور الكراكي‪ ،‬فيذكر أنها كانت‬

   ‫من أعشاب الأرض وديدانها‬                                              ‫تعيش في بلدة جده‪ /‬طبريا‪،‬‬
  ‫ما حلا لها وراق وسط ضباب‬                                               ‫فصارت من الطيور الأليفة‪،‬‬
                                                                       ‫وقد بنى لها الأهالي الأعشاش‬
    ‫عتمة من الفضة الخالصة»‪.‬‬
 ‫تصف أم عبودة طيور الكراكي‬                                                      ‫الكبيرة فوق دورهم‬
 ‫للأب طنوس حين رأتها تحاول‬                                                        ‫مجاورة لأعشاش‬
 ‫دخول البيت عليها‪ ،‬وابنها نائم‬                                                             ‫الحمام‪.‬‬
‫في فراشه‪« ،‬طيور كبيرة الحجم‪،‬‬
                                                                                ‫حينما شعرت طيور‬
   ‫طويلة الأرجل‪ ،‬عالية الرقاب‪،‬‬                                                 ‫الكراكي بالخطر عند‬

                                                                                  ‫سباق الخيل قرب‬
                                                                                   ‫النهر‪« ،‬تراجعت‬

                                                                  ‫حسن حميد‬
   34   35   36   37   38   39   40   41   42   43   44