Page 42 - Merit El-Thaqafyya 37 jan 2022
P. 42

‫العـدد ‪37‬‬   ‫‪40‬‬

                                                          ‫يناير ‪٢٠٢2‬‬

  ‫وحين يفقد الأمل في أن الأب طنوس سوف يخبر‬                  ‫والعطاس‪ ،‬والكلام المتداخل‪ ،‬والنداءات الخافتة»‪.‬‬
‫ماريا وتأتي إليه‪ ،‬يعترف بأنه سيبقى يحاور نفسه‬                 ‫وأي ًضا نقرأ‪« :‬كم كانت منتظرة تلك الأيام! إنها‬
                                                              ‫موسم الأحلام التي تعيشها بلدة (الصبيرات)‪،‬‬
   ‫«لم يكن لد َّي أي أمل سوى بالحوار مع نفسي»‪.‬‬             ‫والقرى المجاورة لها‪ ،‬إنها أيام أهل التعزيب‪ ،‬وأهل‬
‫وأي ًضا يسائل روحه عن ماريا «فسألت روحي عن‬                  ‫الحب‪ ،‬وأهل العشق‪ ،‬وهي أيام النيران التي توقد‬
‫ماريا‪ ،‬فقالت‪ :‬ماريا‪ ،‬قلت‪ :‬أأذهب إليها لأعرف سبب‬              ‫فوق التلال‪ ،‬وفوق رجوم الحجارة‪ ،‬وفوق برج‬
 ‫غيابها»‪ .‬تأخذ الذكريات والمناجاة الداخلية مساحة‬
                                                                               ‫البلدة القريب من البحيرة»‪.‬‬
                              ‫واسعة من السرد‪.‬‬                  ‫ليس ثمة ما يشير طوال فصل (آخر القرى)‪،‬‬
                                                                 ‫وفصل (ليالي القصل) اللذين استقينا هذين‬
          ‫الوصف والتشبيه‪:‬‬                                    ‫المثالين منهما‪ ،‬إلى أن هذا السرد يأتي على لسان‬
                                                           ‫«عبودة»‪ ،‬مما يجعلنا نؤكد على وجود را ٍو مشارك‬
 ‫يلجأ الكاتب في تشكيل المكان إلى آلية الوصف التي‬          ‫في السرد‪ .‬ما يعني أن السرد توزع بين را ٍو داخلي‪،‬‬
    ‫تعد من الآليات المهمة في تقديم المكان‪ ،‬ويساعد‬             ‫ورا ٍو خارجي‪ .‬وهذا الأمر يؤكد على مسألتين‪،‬‬
                                                             ‫الأولى غياب الشخصية الرئيسية في السرد‪ ،‬وما‬
‫الوصف على رسم صورة بصرية للمكان‪ ،‬وتقديمها‬                   ‫«عبودة» إلا شخصية من شخصيات المكان‪ ،‬وإن‬
 ‫للقارئ عن طريق اللغة‪ ،‬يصبح بإمكانه أن يتعرف‬               ‫تميزت عنهم بمحورية السرد‪ ،‬والثانية فقدان هذه‬
   ‫على المكان وملامحه وتفاصيله‪ ،‬ويؤكد بالوصف‬               ‫الشخصية المحورية حريتها واستقلالها السردي‪،‬‬
 ‫على واقعية هذا المكان‪ ،‬ويوهم القارئ أنه يقرأ عالم‬           ‫بحيث أصبح ثمة من يشاركها في السرد ويعبر‬
                                                          ‫عن صوتها وأفكارها‪ ،‬وهذا دليل على تحكم الراوي‬
‫الواقع لا الخيال‪ .‬وعند الوصف تختفي الشخصيات‬
     ‫ويغيب الحوار‪ ،‬ويحل مكانهم الوصف الكامل‬                      ‫بشخصياته وتحركاتها وخطابها وأفكارها‪.‬‬
                                                            ‫وبناء على حداثية الرواية‪ ،‬استخدم الكاتب العديد‬
‫للمشاهد‪ ،‬مع تداخل التشبيه في الوصف‪ ،‬وفي عملية‬               ‫من التقنيات في بناء رؤيته الروائية‪ ،‬أبرزها تقنية‬
   ‫الوصف ينقطع السرد ويتوقف لفترة من الزمن‬
                                                                 ‫تيار الوعي التي تمثلت في المناجاة الداخلية‪،‬‬
‫من طرف السارد‪ ،‬ثم يعود لاستئناف سرد الحكاية‬                                                   ‫والذكريات‪.‬‬
                 ‫بعد انتهائه من الوقفة الوصفية‪.‬‬
                                                          ‫في جانب الذكريات التي يؤكد السارد «عبودة» على‬
    ‫نقرأ وصف مشهد دخول الغجر إلى القرية‪ ،‬مع‬                ‫أنها مستمدة من أمه «يا لأمي وهي تروي لي حين‬
 ‫وصف حركتهم وأفعالهم‪ ،‬وأهالي القرية وأفعالهم‪،‬‬             ‫كبرت»‪ .‬فنقرأ مث ًل‪« :‬هنا‪ ،‬في هذه الكنيسة الصغيرة‬

      ‫والتعاون القائم بينهم «من بعيد‪ ،‬وعلى مقربة‬             ‫كتبت لي الحياة‪ ،‬فما إن عدت منها إلى البيت كما‬
    ‫من قرية (صبيرات)‪ ،‬بدأ المشهد أشبه بكرنفال‬                ‫تقول أمي»‪ ،‬وينقل عن لسان أمه ما كان يحدث‬
     ‫شعبي‪ ،‬تتقدمه وتحيط به ضجة صخابة‪ ،‬فيها‬                ‫معه في الطرقات عندما أصبح الخال المبارك‪ ،‬وكيف‬
    ‫غناء‪ ،‬وإنشاد‪ ،‬ودق‪ ،‬وزعيق‪ ،‬وقرع‪ ،‬وهمهمات‪،‬‬               ‫كان الناس يتجمعون حوله لكي يتباركون منه‪ ،‬أو‬
    ‫وتمتمات‪ ،‬ودعوات‪ ،‬ونداءات‪ ..‬مشهد فيه خليط‬
  ‫عجيب من الرجال والنساء والأطفال والحيوانات‪،‬‬                                           ‫يباركون أدواتهم‪.‬‬
‫الرجال يحملون الدفوف والطبول‪ ،‬وأواني النحاس‪،‬‬                    ‫وفي المناجاة الداخلية‪ ،‬يعبر من خلالها عما لا‬
                                                            ‫يستطيع أن يبوح به أمام الآخرين‪ ،‬فنجده يعقب‬
       ‫والعصي‪ ،‬ويجرون خلفهم أغصان الأشجار‬                 ‫على حديث أمه مع الأب طنوس حول ماريا داخليًّا‪،‬‬
   ‫اليابسة التي تثير غبا ًرا خفي ًفا‪ ..‬بدا المنظر‪ ..‬كأنه‬    ‫يقول‪« :‬يا لها أمي‪ ،‬ما أحلاها‪ ،‬ما أصفى محبتها‪،‬‬
    ‫طبيعة ممتدة‪ ،‬وزعتها كف إلهية هنا‪ ،‬وعلى نحو‬              ‫إنها تعيده إلى النقطة الأولى‪ ،‬إلى البداية الأهم‪ ،‬إلى‬
   ‫فجائي تما ًما‪ ،‬في منبسط الأرض الوسيع بجوار‬                 ‫العتبة الوردية التي تفضي إلى دواخل روحي‪..‬‬
                                                           ‫يكفي أمي جما ًل أنها تذكر اسم ماريا في كلامها»‪.‬‬
                         ‫النهر‪ ،‬وبجوار البيوت»‪.‬‬
  ‫ويصف أي ًضا مكونات الطبيعة من الأشجار التي‬

     ‫كانت قائمة عند ضفة النهر‪( ،‬أجمات القصب‪،‬‬
 ‫والسدر‪ ،‬والبربير‪ ،‬والحلفا‪ ،‬والزل)‪ ،‬إلى الحيوانات‬
   37   38   39   40   41   42   43   44   45   46   47