Page 47 - Merit El-Thaqafyya 37 jan 2022
P. 47

‫‪45‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

   ‫مشهو ًرا يعقد كل ثلاثاء)‪ ،‬والناصرة (التي تضم‬        ‫حيث يتناقل أهالي القرية هذه القصة جي ًل بعد جيل‬
     ‫كنيسة البشارة)‪ ،‬والقدس (بتجلياتها الروحية‬             ‫لقصة «عوفة» التي رفضت أن تراقص «نجيم»‬

‫والمكانية والحضارية)‪ ،‬وبحيرة لوط (البحر الميت)‪،‬‬        ‫صاحب الوجه المجدور في أيام القصل‪ ،‬فحلت اللعنة‬
   ‫وقرية تل‪ ،‬وجميعها ساهمت في استكمال مشهد‬                ‫على القرية حين فاض النهر وأغرق بيوت القرية‪.‬‬
                                       ‫الأحداث‪.‬‬          ‫أما قصة «ريا» فقد استمد منها أهالي القرية اسم‬
                                                         ‫المكان أو اسم البحيرة‪ .‬كانت «ريا» فتاة مريضة‪،‬‬
 ‫يعيش في هذه القرية عالم يموج بالحركة والحياة‪،‬‬               ‫وعجز الطب عن علاجها‪ ،‬فلجأت إلى البحيرة‬
 ‫فهي قرية قديمة تستمد تاريخها من تاريخ طبريا‪،‬‬                 ‫وعاشت بجوارها شهو ًرا حتى شفيت بالمياه‬
                                                         ‫الكبريتية‪ ،‬وحينما كان يسأل عن اسم المكان يقال‬
     ‫أو بحيرة طبريا‪( ،‬لا أحد يدري متى بنيت هذه‬               ‫له اسمه «طب‪ ..‬ريا» ومنه جاء اسم «طبريا»‪.‬‬
   ‫البلدة)‪ .‬هذا المكان الذي يغوص في عمق التاريخ‪،‬‬              ‫ويضاف إلى تلك الحكايات أي ًضا حكاية حب‬
‫لذا تحاول الرواية البحث في هذه الجذور التاريخية‬
   ‫بحثًا عن اسم المكان‪ ،‬من الجذر الخرافي الشعبي‬        ‫(الزهروري وفضة)‪ ،‬وحكاية حب (المبروك يحيى)‪.‬‬
  ‫(قصة ريا‪ ..‬طب) إلى التاريخ في زمن الإمبراطور‬            ‫حكايات تساهم في بناء السرد القائم على جمالية‬
 ‫(طبريانوس) الروماني‪ ،‬الذي أعطى اسمه للبحيرة‬               ‫المكان‪ ،‬فإذا رحل الإنسان تبقى القيمة الجمالية‬
   ‫بعد أن أمر ببناء البلدة‪ ،‬وبنى قصره ودار حكمه‬
                                                       ‫متجلية في المكان‪ ،‬وحاضرة في الذاكرة الجمعية‪ ،‬تلك‬
     ‫في المكان‪ ،‬وبنى أسواقها وأسوارها‪ .‬إلى الكتب‬       ‫الحكايات لم تندثر‪ ،‬رغم اندثار شخوصها‪ ،‬بل بقيت‬
    ‫الدينية ما ذكره «الأب طنوس» في كتابه المقدس‬        ‫الذاكرة الجماعية محافظة على تراثها‪ ،‬لكي تواجه به‬
 ‫عن أن اسم البلدة يعود للفتاة (تبرا)‪ ،‬ويحمل بع ًدا‬
‫أسطور ًّيا عن رمي الفتيات في البحيرة‪ ،‬وهي طقوس‬                ‫آفة النسيان‪ ،‬أو محاولات التغييب القسري‪.‬‬
‫قديمة عرفتها العديد من الشعوب التي كانت تجاور‬
   ‫الأنهار‪ ،‬كعروس النيل في الميثولوجيا الفرعونية‪،‬‬            ‫بنية المكان وبناء الأحداث‪:‬‬
  ‫فإغراق الفتاة يهب الخصب والخير للسكان الذين‬
                                                          ‫استلهمت الرواية في تشكيل عالمها الحكائي بع ًدا‬
                            ‫يعيشون قرب النهر‪.‬‬              ‫متخي ًل اجتماعيًّا إلا أنه يمتلك امتدادات واقعية‪،‬‬
    ‫تأخذ أحداث السرد بع ًدا تاريخيًّا واقعيًّا للمكان‬      ‫بمعنى أنه يحيل إلى أمكنة لها وجود في الواقع‪،‬‬
  ‫المتخيل‪ ،‬من خلال شخصية «عبد الله أو عبودة»‪،‬‬
     ‫الذي يفتتح السرد على مخزون الذكريات التي‬                 ‫لذا لم يشعر القارئ بالتباين بين هذا الواقع‬
 ‫وجدها في صندوق جده‪ ،‬ومن خلالها يعيد تشكيل‬                 ‫بشخصياته وأحداثه‪ ،‬وما هو راسخ في ذهنيته‬
  ‫ملامح المكان‪ .‬نتعرف على عبودة «أمي‪ ،‬وفي غياب‬
   ‫أبي‪ ،‬سمتني عبد الله‪ ،‬ونادتني‪ ،‬كغيرها‪ ،‬عبودة!‬               ‫عن ملامح هذا الواقع قبل غيابه‪ .‬كانت قرية‬
    ‫وقد كان اس ًما مؤقتًا لحين عودة أبي‪ ،‬لكن أبي‬        ‫(الصبيرات) عالم الروائي المتخيل‪ ،‬تلك القرية التي‬
    ‫لم يعد‪ ،‬لهذا بقي اسمي عبودة»‪ .‬جاء عبودة إلى‬         ‫تجاور بحيرة طبريا‪ ،‬وإذا عدنا إلى التاريخ نجد أن‬
  ‫الحياة بعد أن غادر والده (عزيز) القرية إلى ميناء‬
   ‫حيفا للعمل فيها‪ ،‬وقد تربى في الكنيسة الوحيدة‬            ‫ثمة ‪ 25‬قرية عربية كانت مجاورة للبحيرة قبل‬
     ‫في القرية برعاية «الأب طنوس»‪ ،‬وأمه «هدلة»‪،‬‬          ‫عام ‪ .1948‬لا تختلف في ملامحها عن هذه القرية‬
  ‫و»ماريا»‪ ،‬هؤلاء هم الذين صقلوا شخصيته‪ .‬منذ‬           ‫المتخيلة‪ ،‬لذا نستطيع تصنيف هذه الرواية في زاوية‬
   ‫ميلاده كان مصا ًبا بالمرض والاصفرار وضعف‬             ‫الرواية الاجتماعية الواقعية‪ ،‬فهي تشخص للقارئ‬
‫عام في بنيته الجسمية‪ ،‬ويعرض على طبيب الكنيسة‬             ‫ملامح من نسيج الحياة الفلسطينية بكل صورها‬
    ‫الذي يصف له دوا ًء شعبيًّا‪ .‬اعتقد «عبودة» منذ‬        ‫الاجتماعية والطبيعية‪ ،‬والعلاقات بين أفرادها‪ ،‬أو‬
   ‫طفولته أن «الأب طنوس» هو والده لكثرة تردده‬
   ‫عليهم في البيت‪ ،‬وهو الذي علمه القراءة والكتابة‬                           ‫علاقتها مع الزائرين للقرية‪.‬‬
                                                                ‫وإذا كان الفضاء المكاني للرواية هو قرية‬
                                                            ‫الصبيرات‪ ،‬إلا أن ثمة أماكن أخرى جاء ذكرها‬
                                                          ‫في سرد الأحداث‪ ،‬كالخالصة (كانت تضم سو ًقا‬
   42   43   44   45   46   47   48   49   50   51   52