Page 52 - Merit El-Thaqafyya 37 jan 2022
P. 52

‫العـدد ‪37‬‬                 ‫‪50‬‬

                                                      ‫يناير ‪٢٠٢2‬‬

    ‫التي يزخر بها الواقع‪ ،‬إن كان على صعيد وعي‬            ‫مداف ًعا عن كرامة القرية التي صارت في الوحل‪،‬‬
      ‫الأفراد ونشاط الجماعة‪ ،‬ولعل السؤال الأكثر‬       ‫بسبب اختفاء «فضة»‪ ،‬وعدم ظهور المولود الجديد‪،‬‬

 ‫حضو ًرا يبقى كامنًا في الطريقة التي يمكن التوفيق‬          ‫ودعاهم للبحث عن «فضة»‪ ،‬وأن يقوم «الخال‬
  ‫فيها بين الرؤية الفردية والرؤية الجماعية للعالم‪.‬‬      ‫العجوز» بالاطلاع مرة أخرى على مواليد القرية‪.‬‬
 ‫تتكون تلك الرؤية من الكاتب في عمله الروائي التي‬
                                                           ‫في حين نجد شخصية (الزهروري) شخصية‬
     ‫يشكلها من خلال تأثره بالمجتمع الذي يتحدث‬                  ‫مركبة‪ ،‬تتحكم في أفعالها وسلوكها دوافع‬
 ‫عنه‪ ،‬وبما أن هذا المجتمع يتكون من أفراد عديدين‪،‬‬
                                                          ‫نفسية متناقضة‪ ،‬ومتصارعة في داخلها‪ ،‬ورغم‬
    ‫فتصبح تلك الرؤية رؤية جماعية‪ ،‬لأنها مرتبطة‬            ‫هذا التناقض إلا أن لديها طمو ًحا وإرادة وعز ًما‬
    ‫بهؤلاء الأفراد‪ ،‬الذين يصبح الكاتب جز ًءا منهم‬          ‫وتضحية من أجل الوصول إلى أهدافها‪ ،‬ولكن‬
                                                          ‫الحالة السوداوية التي مر بها بفعل التناقضات‬
                              ‫ويعبر عن رؤيتهم‪.‬‬           ‫تؤدي إلى سقوطه في الجنون‪ .‬لقد عشق «فضة»‬
    ‫في خضم التطورات الحديثة للرواية‪ ،‬وفي سياق‬           ‫الغجرية إلى حد الجنون‪ ،‬وخرج للبحث عنها حين‬
  ‫الرؤى المتعددة للهدف من كتابتها‪ ،‬لم تعد الرواية‬        ‫رحلت بين القرى والبلدات ولم يجدها‪ ،‬ورغم ما‬
‫وسيلة ترفيهية أو جمالية‪ ،‬إنما باتت أداة من أدوات‬      ‫سمعه من «عباس» والد صديقه «قدورة» عن حياة‬
  ‫المعرفة‪ ،‬وتخوض غمار الصراع القائم في المجتمع‬             ‫الغجر‪ ،‬وألاعيب نسائهم‪ ،‬إلا أنه قرر أن يكون‬
 ‫وتعبر عنه‪ ،‬وترسم رؤيتها الخاصة وفق الدلالات‬            ‫فار ًسا ويخرج مرة أخرى للبحث عن «فضة»‪ ،‬إلا‬
‫الفكرية والأيديولوجية التي يتبناها الكاتب‪ /‬المؤلف‪.‬‬       ‫أن «فضة» غابت ولم يجدها‪ ،‬فأصيب بالجنون‪،‬‬
‫تنتهي رواية الكراكي بالتعبير عن وحدانية «عبودة»‬          ‫وبدأ يتخيلها «وسط الليل البهيم نجمة تومئ له‪،‬‬
   ‫في المكان‪« :‬الآن‪ ،‬قل لي يا إلهي‪ ،‬ماذا أفعل؟! وقد‬
  ‫غدوت وحي ًدا‪ ،‬وحي ًدا‪ ،‬تما ًما‪ ..‬والجنود الشقر على‬                                 ‫وتقول تعال لي»‪.‬‬
‫الجسور‪ ،‬وفي مفارق الطرق‪ ،‬وفي القرى‪ ..‬والمدن؟!»‪.‬‬             ‫أما شخصية (المبروك يحيى) فهي شخصية‬
                                                      ‫متغيرة‪ ،‬تتغير حسب تطور الأحداث وتطورها‪ ،‬ولا‬
      ‫وهؤلاء منعوا الناس من التحرك والانتقال أو‬          ‫تبقى على صورة ثابتة‪ .‬فهذا «المبروك يحيى» لم‬
     ‫الدخول إلى البلاد أو الخروج منها دون أوراق‬        ‫يكن مبرو ًكا‪ ،‬بل كان شخصية عادية يمارس البيع‬
   ‫أو تصاريح‪ .‬لقد احتلت البلاد وأغلقت على أهلها‪،‬‬      ‫بين القرى‪ ،‬حتى وقع في حب إحدى الفتيات‪ ،‬ولكن‬
      ‫وما يدل على ذلك في السرد أن الكل أصبح في‬          ‫أهلها رفضوا تزويجه إياها‪ ،‬وزوجوها ابن عمها‪،‬‬
  ‫غياب‪ ،‬والغياب يعني الموت‪ ،‬أو الرحيل من المكان‪،‬‬           ‫فما كان من يحيى إلا الذهاب واقتحام العرس‬
‫و»عبودة» الذي بقي وحي ًدا في المكان دون سند بعد‬            ‫لفكاكها‪ ،‬فضربه شبان البلدة على رأسه‪ ،‬ومن‬
‫أن غاب عنه الكل‪ :‬الأم‪ ،‬ماريا‪ ،‬الأب طنوس‪ ،‬وقبلهم‬        ‫يومها فقد النطق واختل سلوكه‪ ،‬وما عاد «المبروك‬
   ‫الأب‪ ،‬وهذا دلالة على بقاء الفلسطيني وحي ًدا بعد‬         ‫يحيى» الذي يعرفونه‪ .‬وغاب «المبروك يحيى»‬
    ‫ترحيل الأهل والأحباب قسر ًيا من المكان‪ .‬لذلك‬
   ‫نجد «عبودة» في حيفا يطلب من رفيقه أن يصعد‬                      ‫مقتو ًل في زمن الثلج إذ أكلته الضباع‪.‬‬
 ‫به إلى الصخور‪ ،‬وحين يسأله لكي تموت‪ ،‬يقول له‬          ‫وباقي الشخصيات التي جاء ذكرها كانت مساعدة‬
   ‫«عبودة»‪« :‬لا لكي أملح جسدي لعلي أتجدد‪ ،‬كيما‬
‫أقوى على العودة إلى البيت»‪ .‬هي العودة إلى الوطن‪/‬‬        ‫لشخصيات أخرى‪ ،‬فهذا (هارون) خادم الكنيسة‬
  ‫المكان‪ /‬البيت‪ ،‬ولكن بمفاتيح أو رؤى جديدة‪ ،‬تلك‬         ‫ومساعد «للأب طنوس»‪ ،‬وقد أرسله للسؤال عن‬
   ‫العودة التي لم يتخلى عنها الفلسطيني مهما طال‬       ‫ماريا في الخالصة‪ ،‬و(زيدان زغندرة) يساعد عبودة‬
                                                      ‫في الدكان‪ ،‬و(قدورة) صديق «الزهروري» ومرافقه‬
                                         ‫الزمن‪.‬‬           ‫في البحث عن فضة‪ ،‬و(سلامة) صاحب العربة‪.‬‬
   ‫وهنا تأتي الرؤية‪ /‬البشارة أن الغياب لن يطول‪،‬‬
                                                                  ‫رؤية العالم‪:‬‬
     ‫وليس للغرباء مكان في هذه البلاد‪ ،‬هذا ما قاله‬
       ‫السيد المسيح‪« :‬إنها بلاد ستعرف مطاردات‬         ‫رؤية العالم ما هي إلا تمثيل للنشاط الجمعي‪ ،‬ولكن‬
                                                       ‫بوعي فردي‪ ،‬إنها الفرز المعمق والدقيق للتفاصيل‬
   47   48   49   50   51   52   53   54   55   56   57