Page 53 - Merit El-Thaqafyya 37 jan 2022
P. 53

‫‪51‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

   ‫بتعبير سيدنا) في ذهنية «عبودة» وابنته «ماريا»‬         ‫كثيرة‪ ،‬مثل المطاردات التي يتعرض لها‪ ،‬ولكنها‬
‫بما يمثلانه من جيل جديد‪ ،‬بالكتب والمعرفة تفتحت‬              ‫ستظل مطاردات فحسب‪ ،‬وإن غمرها الزمن‬

  ‫ذهن عبودة على عوالم شتى‪ ،‬وتعلم أشياء كثيرة‪،‬‬          ‫بالأيام والسنين‪ ،‬وإن جاءت بالكواره‪ ،‬والأذيات‪،‬‬
     ‫واستطاع تفسير معاني عديدة يقول‪« :‬لا أذكر‬         ‫والحرمان‪ ،‬والقهر‪ ،‬وأن هذه البلاد ستظل لأهلها‪،‬‬

   ‫نفسي إلا وكنت بين الكتب‪ ،‬والأوراق‪ ،‬والأقلام‪.‬‬          ‫وإن أدلهم ليلها! ولن يكون وجود الغرباء فيها‬
 ‫هنا في البيت‪ ،‬وعيت الحياة والكتب أمامي وحولي‪،‬‬            ‫حضو ًرا‪ ،‬مهما امتد‪ ،‬سوى لحظة تشبه رمشة‬
  ‫وبين يدي‪ .‬كانت هي ألعابي وسلوتي ومسراتي‪،‬‬
  ‫وهناك في الكنيسة حيث أخذني إليه الأب طنوس‬                                                 ‫الهدب»‪.‬‬
 ‫كانت الكتب أمامي وحولي وبين يدي‪ .‬كانت العين‬             ‫هذه البشارة التي نقلها أحد أتباع المسيح عنه‪،‬‬
                                                     ‫نلاحظ فيها (مطاردات كثيرة‪ ..‬مثل المطاردات التي‬
     ‫التي أرى فيها الدنيا والناس‪ ،‬ولأرى ما جالت‬        ‫يتعرض لها)‪ ،‬مما يعني أن هذه البلاد تطارد من‬
   ‫به الأزمنة‪ ،‬والأمكنة‪ ،‬وكيف تثير الأحلام ريا ًحا‬       ‫اليهود‪ ،‬فهم الذين كانوا يطاردونه حتى قتلوه‪.‬‬
   ‫أو عربات أو درو ًبا تحمل أهلها إلى عالم المرتجى‬   ‫ورغم كل ما يحدث لها من كوارث ستتبقى لأهلها‪،‬‬
   ‫والنوال‪ ..‬وتعلمت منها الكثير أي ًضا‪ ،‬وقد راحت‬
‫روحي تطوف بي في مغامرات جديدة مع كل كتاب‬                        ‫وما وجود الغرباء فيها إلا رمشة عين‪.‬‬
                                                         ‫وهنا يأتي السؤال‪ :‬كيف سنعيد البهاء لجمالية‬
     ‫جديد‪ ،‬الكتب هي من جعلتني أسأل عن معاني‬            ‫المكان‪ ،‬ولا يبقى للغرباء فيها مكان؟ تبرز الرؤية‬
 ‫الحياة‪ ،‬والموت‪ ،‬والخلود‪ ،‬وقيم النبالة والخساسة‪،‬‬
  ‫وهي التي جعلتني انتشي وأزهو بالجمال والحق‬                ‫التي يسعى الكاتب إلى بثها بين ثنايا السرد‪،‬‬
  ‫والخير‪ ،‬وأذوب وأنا أرى صور الظلمات حاضرة‬            ‫وتأتي من خلال «الأب طنوس»‪ ،‬للأجيال الجديدة‬
                                                       ‫«عبودة»‪ ،‬وهي الرؤية القائمة على المعرفة والمحبة‬
                                   ‫هنا وهناك»‪.‬‬
     ‫إن الرؤية التي سعى الكاتب إلى ترسيخها هي‬               ‫«يا لهذا الأب الراعي‪ ،‬هو من علمني القراءة‬
 ‫رؤية الكتب والمعرفة بأنها الطريق الصحيح لمعرفة‬           ‫والكتابة‪ ،‬وهو من أسرني داخل دائرة الرضا‬
  ‫الحياة‪ ،‬فالكتب هي التي ستأخذ الإنسان إلى عالم‬      ‫الإلهي‪ ،‬وهو من منحني البركة‪ ،‬وهو من أخذ بيدي‬
      ‫النور‪ ،‬وتجعله يستغني عن التجربة بالإقناع‬           ‫لأتعلم فن الرسم والنحت‪ ،‬وهو من جعل عيني‬
   ‫والدليل‪ .‬وهي التي ستجعل للغرباء لا مكان لهم‬           ‫عيني بومة دائرتين لا تشبعان من المعرفة‪ ،‬ولا‬
 ‫على هذه البلاد‪ ،‬وتحقيق عودتهم‪( ،‬تحمل أهلها إلى‬        ‫تتوانيان عن رؤية النور والسعي إليه‪ ،‬وهو الذي‬
                                                      ‫أخذ بأصابعي إلى أعواد القصب لأنفخ فيها أجمل‬
                          ‫عالم المرتجى والنوال)‪.‬‬         ‫الألحان وأروعها‪ ،‬هو من هداني لأقرأ التاريخ‪،‬‬
     ‫إن القيمة الجمالية التي تحققها رواية الكراكي‬     ‫تاريخ الإنسان‪ ،‬وتاريخ الأديان‪ ،‬وهو الذي علمني‬
 ‫لدي القارئ نابعة من جمالية اللغة وآليات التعبير‬        ‫أن أغنى ثروة في العالم هي الإنسان‪ ،‬وأن أجمل‬
 ‫السردي‪ ،‬ومن جماليات وصف المكان‪ ،‬وما يحمله‬             ‫سعي هو سعي المحبة‪ .‬كم كان يكرر كلمة المحبة‬
‫من ملامح تراثية وحكايات شعبية ما زالت راسخة‬            ‫في اليوم الواحد‪ ،‬في البرهة الواحدة‪ ،‬وفي الجلسة‬
  ‫في الذاكرة الشعبية‪ ،‬يشعر القارئ أنه يعيش عالم‬         ‫الواحدة‪ ،‬وفي اللحظة الواحدة‪ ،‬وكم كان يحدثني‬
   ‫قرية الصبيرات وبحيرة طبريا في زمنها الجميل‬        ‫عن المحبة لكي أكون لصي ًقا بها‪ ،‬وأن تكون لصيقة‬
 ‫يوم أن كانت عامرة بالسكان‪ ،‬وقبل أن تتحول إلى‬             ‫بي»‪ .‬إن المعرفة تفتح مدارك الإنسان على فهم‬
‫عالم الغياب‪ ،‬ولكن الأمل ما زال قائ ًما بعودة المكان‬  ‫جديد للحياة‪ ،‬والمحبة تزرع في نفس الإنسان القيمة‬
     ‫وأهله حين نمتلك المعرفة‪ ،‬ونرسخ المحبة بيننا‬      ‫الإنسانية للعلاقة بين البشر‪ ،‬فإذا أردنا الانتصار‬
‫كأصحاب لهذا المكان‪ ،‬عندها يكون لدينا القدرة على‬       ‫علينا أن نكون متحابين في الدين والإنسانية‪ ،‬وأن‬
‫محاججة الرواية الزائفة للعدو الصهيوني‪ ،‬ونكشف‬
                                                                     ‫نعمق هذه المحبة بالفكر والمعرفة‪.‬‬
           ‫بالدليل والإقناع أننا أصحاب هذا المكان‬     ‫هذا ما علمه وما حاول أن يرسخه «الأب طنوس»‬
                                                      ‫الذي يمثل الكنيسة والسيد المسيح (حيث يوصف‬
   48   49   50   51   52   53   54   55   56   57   58