Page 97 - Merit El-Thaqafyya 37 jan 2022
P. 97

‫‪95‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

    ‫نظرت اعتزال له شز ًرا ثم تابعت التمتمة‪ ،‬مقربة‬      ‫تتوسل إلى بقايا النيزك الذي في قبضتها‪ ،‬علت نبره‬
                       ‫القطعة الصغيرة من فمها‪.‬‬               ‫صوتها وكأنها تأمر لا تدعو «نجينا يا رب»‪.‬‬

 ‫لا شيء أسوأ من الانتظار‪ ،‬كل ما أرغب به الآن هو‬           ‫قال صمود بنبرة ضجر مع قليل من اللامبالاة‪:‬‬
  ‫الكتابة‪ ،‬لكن عن ماذا أكتب؟ عن نفسي أو عن أخي‬              ‫«اللوم يقع على جدي الأكبر‪ ،‬لو كان وافق على‬
‫صمود الجالس بجانبي ويحمل في قلبه الأمل لدخول‬
‫عالم جديد لكنه في الوقت نفسه يشعر بالخوف عليَّ‪،‬‬         ‫الهجرة الأولى أو حتى الثانية إلى المريخ لكنا نعيش‬
                                                                                    ‫الآن هناك‪ ،‬لا هنا»‪.‬‬
    ‫لولا إلحاحه المتواصل لما كنت هنا‪ ،‬فقد شدد على‬
    ‫ضرورة التمسك بالأمل‪ ،‬رغم عدم امتلاكي لأي‬             ‫ثم همس لي وما زالت يده الرقيقة تمسك بإحكام‬
  ‫موهبة لكنه كان يرى أن قارئة جيدة لكتب التاريخ‬          ‫يدي اليسرى ثم ربت عليها عده مرات‪ ،‬وقال‪« :‬لا‬
    ‫وكاتبة مثلي في هذا الزمن عملة نادرة‪ ،‬ولا بد أن‬        ‫تقلقي من أجلي‪ ،‬لو وقع اختيارهم علي ِك سأفرح‬
‫أصعد على متن المريخ لأحكي عن كل ما عشته‪ ،‬لكني‬           ‫أكثر‪ ،‬سيكون أم ًرا رائ ًعا أن تحتفلي بالألفية الرابعة‬
 ‫لا أرى أي فائدة من ذلك‪ ،‬هناك بالتأكيد من سبقني‬
 ‫في تحقيق هذا الأمر‪ .‬يعود الفضل لجدي في تعليمي‬                                                 ‫هناك»‪.‬‬
‫القراءة والكتابة وتشجيع صمود على احتراف النحت‬         ‫اقتربت منه هامسه‪« :‬ما زال الوقت مبك ًرا على الألفية‬
    ‫على الصخور‪ .‬لقد صمم أخي منحوتات غاية في‬
   ‫الروعة لبشر وحيوانات وأشكال فنية غريبة‪ ،‬إنه‬            ‫الرابعة‪ ،‬خمس سنوات يا صمود‪ ،‬لا أحد يعرف‬
                                                         ‫ما الذي سيحدث‪ ،‬ربما سيحترق كلانا بعد بضع‬
                                   ‫فنان حقيقي‪.‬‬
  ‫أشعر بالفقد الكبير منذ رحيل جدي العام الماضي‪،‬‬              ‫ساعات ويصعد مهدي أو اعتزال إلى هناك»‪.‬‬
  ‫لكن من الجيد أنه رحل قبل أن يشاهد هذه المهزلة‬         ‫قهقه قلي ًل ثم قال باس ًما‪« :‬لا‪ ..‬اعتزال أو مهدي في‬
 ‫الأرضية‪ ،‬ويتعذب جسده النحيل بنار النيزك‪ .‬لذلك‬
  ‫لا داعي لكتابة أي شيء الآن‪ ،‬فلا جدوى من ذلك‪،‬‬                       ‫المريخ! هذا أسوأ من هبوط النيزك»‪.‬‬
                                                       ‫قاطع مهدي لحظتنا الأخوية بصوته الخشن‪« :‬يقال‬
               ‫كل ما سأكتبه الآن سيحترق لاح ًقا‪.‬‬
      ‫قالت اعتزال‪« :‬ألا يستطيعون صنع كبسولات‬              ‫إن الوكالة علقت في الشوارع لوحات رقمية مثل‬
  ‫عملاقة وأخذنا جمي ًعا‪ ..‬لن أحتاج إلى مقعد‪ ،‬سأظل‬       ‫التي في سقف غرفة الانتظار هذه؛ لحساب المتبقي‬
                                                         ‫من الوقت على هبوط النيزك على رؤوسنا جمي ًعا‪،‬‬
                                        ‫واقفة»‪.‬‬          ‫وانتهاء صلاحية هذه الأرض العجوز‪ ..‬وكأنه عد‬
  ‫رد مهدي مستنك ًرا‪« :‬هل تحسبين الكبسولة حافلة‬         ‫تنازلي لموعد رأس السنة‪ ،‬الملاعين لا يهتمون لمصير‬
‫في قريتك يا امرأة؟»‪ ،‬ثم نظر إل َّي أنا وصمود متعجبًا‬     ‫المساكين في الخارج‪ ،‬لا بد أنهم ‪-‬وأشار بالسبابة‬
                                                        ‫إلى السقف ثم تابع‪ -‬يحتفلون بنهاية هذا الكوكب‪،‬‬
     ‫ومشي ًرا إليها بكلتا يديه‪« :‬كيف مرت هذه المرأة‬      ‫ماضيهم التعيس سيذهب كل الحروب والمصائب‬
  ‫بكل الاختبارات والمقابلات الشخصية ونجحت في‬
                                                           ‫التي قاموا بها ستنسى‪ ،‬تنهد قلي ًل وقد شعرت‬
                            ‫التصفيات النهائية؟»‪.‬‬          ‫بحرارة الهواء الخارج من فمه تحيط بنا جمي ًعا‪.‬‬
    ‫نظرت إليه اعتزال متحدية ومشيرة بسبابتها إلى‬       ‫«وسائل الإعلام حذرت الحمقى ومنهم عائلتي مرا ًرا‬
                                                       ‫قبل مئتي سنة‪ ،‬أنه يتوجب عليهم ترك هذا الكوكب‬
          ‫السقف في ثقة وقالت‪« :‬ببركته وفضله»‪.‬‬              ‫البالي واستثمار أموالهم ومستقبلهم على كوكب‬
      ‫بصق مهدي‪ ،‬وقد شعر ُت أن الهدف كان وجه‬
                                                                ‫المريخ‪ ،‬لكن الحمار حمار‪ ،‬ما باليد حيله»!‬
                     ‫اعتزال لا الأرضية الرمادية‪.‬‬          ‫قالت اعتزال‪« :‬قررت عائلتي عدم مغادرة كوكب‬
 ‫عندما ظهر رقم (‪ )١‬على الشاشة‪ ،‬انطلق من المذياع‬        ‫الأرض مرددين العبارة التي تناقلها الجميع في ذلك‬
                                                      ‫الوقت وكأنه كلام مقدس‪« :‬خلق الله الأرض وأرسل‬
   ‫الفضي الطويل المعلق على جدار الجهة اليمنى من‬           ‫الرسل إلى أهلها‪ ،‬لم يتم ذكر المريخ أو أي بطيخ‪،‬‬
 ‫الغرفة صوت الرجل الذي أرشدنا منذ يومنا الأول‬             ‫هذه بدعه‪ ،‬هم الهالكون لا نحن»‪ .‬هذه هي حجه‬
  ‫قبل شهر‪ ،‬وقف مهدي واعتزال بانتباه بينما تباطأ‬       ‫جدي الأكبر وكل أصدقائه الذين رفضوا السفر رغم‬
‫وقوفي أنا وصمود‪ ،‬كنا نرغب في إعلان اسم المختار‪،‬‬       ‫إتاحه الإمكانية لكل المهندسين‪ ،‬سامحه الله»‪ .‬تابعت‬
 ‫لكن كنا نخشى العواقب‪ ،‬حبسنا أنفاسنا وانتظرنا‪،‬‬          ‫مبتسمة بفخر‪« :‬كان جدي الأكبر مهند ًسا كبي ًرا»‪.‬‬
‫قال الصوت كعادته في نبره مقتضبه‪« :‬الآن سيدخل‬          ‫قال مهدي بنصف ابتسامه‪« :‬تقصدين حما ًرا كبي ًرا»‪.‬‬
   92   93   94   95   96   97   98   99   100   101   102