Page 99 - Merit El-Thaqafyya 37 jan 2022
P. 99

‫‪97‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

   ‫على بعد أمتار قليلة وحول جبل كبير من النيران‬         ‫استسلام وهدوء وقد غمرتني السعادة الداخلية‬
  ‫الهائجة اتخذ المئات من الرجال والنساء والأطفال‪،‬‬     ‫والرضا التام لعدالة الوكالة في اختيار صمود‪ ،‬لكن‬
‫الرقص الجامح والغناء الشعبي بصوت جهوري على‬
‫إيقاعات شرقية قديمة ُتدق على دفوف كبيرة‪ ،‬طريقة‬          ‫لم يمنع هذا خوفي وقلقي عليه مما سوف يواجه‬
‫لتوديع العالم واستقبال النيزك‪ ،‬وراحوا يرددون بلا‬     ‫هناك‪ ،‬لم أد ِر من كان المحظوظ فينا؟ صمود الذاهب‬

                                        ‫انقطاع‪:‬‬         ‫إلى أرض جديدة مجهولة أم أنا الذاهبة إلى الفناء‬
                               ‫يا طير ياللي جاي‬                            ‫الحتمي بعد أقل من ساعة‪.‬‬
                              ‫خليني ارتاح شوي‬
                             ‫يا نيزك استنى عليّ‬     ‫حملنا متعلقاتنا الشخصية ولم نكترث لوجبة العشاء‬
                        ‫خليني اتهنى للعام الجاي‬        ‫التي كانت داخل علبه حمراء صغيرة‪ ،‬أُغلق الباب‬
    ‫إنها في رأيي الطريقة الأمثل لتوديع هذا الكوكب‬        ‫الرئيسي للوكالة خلفنا‪ ،‬من الجيد أن صمود لم‬
                                ‫والحياة بأكملها‪.‬‬          ‫يتخلى عن مكانه لأجلي‪ ،‬كنت سأقتله لو فعلها‪.‬‬
   ‫اخذت الفتيات والنساء يرقصن بكل ما أوتين من‬             ‫كان العالم خارج الوكالة يعبر بشكل كبير عن‬
    ‫قوة‪ ،‬ويميلن شعورهن يمينًا ويسا ًرا‪ ،‬وعلى ُبعد‬         ‫النهاية‪ ،‬إنه مهرجان وداعي للعالم أجمع‪ ،‬وكل‬
 ‫خطوات قليلة من النيران فقدت واحدة منهن الوعي‬            ‫مجموعة كانت تقول ودا ًعا للحياة على طريقتها‬
                            ‫لكن لم يهتم لها أحد‪.‬‬
      ‫بعد قليل صاح أحد الشيوخ ليشعل المزيد من‬        ‫الخاصة‪ ،‬المشاعل المتوهجة تملأ المكان‪ ،‬ابتعد مهدي‬
 ‫الحماس في قارعي الطبول والراقصين‪« :‬إنه كوكب‬        ‫عنا ولم يتوقف عن تسديد اللعنات لي ولصمود ولكل‬
  ‫منتهي الصلاحية ولا يستحق البكاء عليه‪ ،‬افرحوا‬
                                                        ‫من في الوكالة وللأرض ولمن عليها‪ ،‬بينما سارت‬
                                     ‫وارقصوا»‪.‬‬                ‫السيدة اعتزال بالقرب مني وهي ترتجف‪.‬‬
‫ثم سحب يدي لأنضم إلى النسوة الراقصات‪ ،‬لكني‬
                                                       ‫لم أد ِر إلى أين تأخذني قدماي‪ ،‬ولا أعلم سر عدم‬
     ‫ابتعدت عنه مبتسمه وما زلت اتابعهم بحماس‪،‬‬           ‫الاكتراث الذي أصابني‪ ،‬لا دموع ولا جنون ولا‬
‫لمحت مهدي من بعيد يتلقى الضربات من أحدهم في‬           ‫انهيار مثلما يفعل من حولي‪ ،‬لماذا لا أصلي أو أبتهل‬
                                                       ‫أو أرقص كالبقية‪ ،‬أو حتى أرمي بنفسي من أعلى‬
                      ‫استسلام حتى سقط أر ًضا‪.‬‬
    ‫ملأت الابتسامة ومعها الدموع الغزيرة وجهي‪،‬‬                   ‫الهرم الأكبر مثلما يفعل العشرات الآن؟‬
‫عندما نظرت للأعلى ورأيت الكبسولة الفضائية تحلق‬         ‫ذكرني التزاحم بأبي وأمي اللذين لا أعرف عنهما‬
  ‫بعي ًدا عنَّا‪ ،‬لوحت بيدي في حماسه إلى صمود وكل‬        ‫الكثير‪ .‬لم أفكر فيهما من قبل حتى أني لا أعرف‬
‫ظني أنه الآن يلوح لي أي ًضا‪ ،‬وكلما ابتعدت الكبسولة‬
  ‫البيضاء من جهة‪ ،‬اقترب النيزك المتوهج من الجهة‬                        ‫شكلهما‪ ،‬فلماذا أتذكرهما الآن؟‬
‫الأخرى‪ ،‬يشق طريقة في السماء بعزم لا يثنيه تزايد‬     ‫وقف المئات على درجات الأهرامات الثلاثة بعشوائية‬
   ‫التوسلات والأدعية أو حتى الرقص والغناء الذي‬       ‫في جولة استطلاعية منهم‪ ،‬وأخذوا يراقبون السماء‬
   ‫عاد لصخبه مجد ًدا‪ ،‬مما دفعني إلى الانضمام إلى‬    ‫وما نحن مقبلين عليه في ترقب‪ ،‬كان من الجيد قبول‬
 ‫جوقة الراقصين والراقصات‪ ،‬ثم أخذت أدور وأقفز‬         ‫فكرة أن الأهرامات ستنال نفس مصيرنا من الهلاك‬
 ‫حول النار وعيني مسلطة على الكبسولة التي حلقت‬
                                                                     ‫بعد كل هذه القرون من الصمود‪.‬‬
                    ‫بعي ًدا حتى اختفت من سمائنا‪.‬‬         ‫صمود كيف حالك الآن يا عزيز قلبي وروحي‪،‬‬
   ‫«مع السلامة يا صمود»‪ :‬قلت بأعلى صوتي وقال‬
                                                                                ‫أتمنى أن تكون بخير‪.‬‬
                ‫من بعدي المحيطين «مع السلامة»‪.‬‬        ‫اتخذ العشرات من الرجال والنساء والأطفال طر ًقا‬
                                                      ‫مختلفة للتعبير عن جزعهم وقلة حيلتهم‪ ،‬الصراخ‪،‬‬

                                                                             ‫البكاء‪ ،‬النحيب‪ ،‬الضحك‪.‬‬
                                                    ‫ذابت اعتزال في الزحام بعد إلقاء قطعة النيزك البالية‬

                                                      ‫التي كانت تحملها طوال هذه المدة على أحد الرجال‬
                                                     ‫الواقفين‪ ،‬لكن الرجل عملاق الجسد كثيف الشعر لم‬

                                                       ‫يهتم‪ ،‬وظل يردد الأدعية ومعه العشرات الذين لم‬
                                                      ‫يتوقفوا عن ترديد الابتهالات بصوت جهوري لعل‬

                                                                       ‫النيزك يحن قلبه ويغير مساره‪.‬‬
   94   95   96   97   98   99   100   101   102   103   104