Page 94 - Merit El-Thaqafyya 37 jan 2022
P. 94
العـدد 37 92
يناير ٢٠٢2
الدروس التي تذاكرها للصغار .ولم يكن يتمكن تحتك الملاعق بالأواني والأطباق مصدرة صوتها
من النوم إلا بعد سماعها وهي تغني له ،أو لهم.. المزعج والمألوف للجميع ..لكن احتكاك ملاعق
أشعرتها ملاحظته الأخيرة عن الصوت ببعض الجيران بصحونهم ،كان يصله ..سعلة الجار ،أو
الإحراج. مجرد تقليب ورقة في كتاب لطفل يذاكر في نفس
البناية ،كان كفي ًل بإفساد يومه .أصبح الأمر لا
بعدما حصلت المرأة على صوتها واختبرته بنفسها. يطاق بعدما ُولد طفلهم الأول ..صرخات الطفل
شعرت كما لو أن روحها قد ردت إليها .شكرته المفاجئة والمتواصلة أصابته بإغماءات عديدة ،لم
أكثر من مرة لاعتنائه بالصوت وعدم التفريط تتحمل الزوجة عبء الاعتناء بالأب والطفل م ًعا.
قررت أن تكتفي بالعبء الأخف ،أو الذي رأت أنه
فيه ..حاولت أن تغادر لكنه جاهد لكي يستبقيها.. لا يمكنها التخلي عنه ،ورحلت .ترك هو المنزل الذي
تعلل بتحضير وجبة من سمك طازج اصطاده كان يعيش فيه معها ،وابتاع هذا الكوخ البعيد عن
قبل مجيئها بساعة واحدة ..اضطرت للموافقة كل مظاهر الحياة .اعتاد أن يصطاد كل يوم قبيل
العصر .يختار سمكة واحدة ليشويها من صيد
بأن تشاركه طعامه .كي ترد له جز ًءا من الجميل.. النهار ،ويعيد باقي السمك إلى البحر .لكنه في هذا
استطعمت سمكه المشوي ..ربما كانت تلك أول اليوم لم يصطد إلا سمكتين فقط .خشي ألا يجد
قوت يومه التالي فاحتفظ بالاثنتين .لم يتخيل أنه قد
وجبة يعدها أحدهم خصي ًصا لها .أول مرة ُتقدم
لها الوجبة ساخنة وجاهزة على التناول ،بل حتى اصطادها لها.
إنه قام يتزيين الصحن من حول السمكة ببعض ذهب الرجل إلى حجرة داخلية وعاد بإناء شفاف،
البقدونس وحلقات الطماطم والفلفل ومعجون أخبرها أنه احتفظ بصوتها في داخله طوال تلك
الطحينة بطريقة أجرت ريقها ..بعدما انتهيا من الأشهر الفائتة ..أخبرها كم هو ممتن لهذا الصوت
الطعام ،اقترح عليها أن يقرأ لها إحدى قصصه
المفضلة ،وافقته بهز رأسها بعدما تحرجت من الذي قضى معه أجمل لياليه حتى وهو لا يقول
له أي شيء سوى النحيب والبكاء ..يومها كان
الرفض. جال ًسا على الصخور يصطاد كعادته ،حين انتبه
تحكي قصته عن امرأة جالسة في عربة أحد لصوت أشبه بالنحيب ..سمعه بوضوح رغم وضعه
القطارات .يجلس أمامها رجل لا يبدوعليها أنها لسدادات الأذن التي تريحه وتمنع عنه جز ًءا كبي ًرا
تعرفه ورغم أنهما لم يتحدثا ولو بكلمة ،ولا تلاقت من صخب الأمواج الذي يزعجه ..تلفت حوله ..لكن
أعينهما بربع نظرة .ولا حتى تحققت من ملامح المكان كان خاليًا تما ًما ..حساسية أذنه مكنته من
وجهه وتفاصيلها ،إلا أنها وجدت نفسها فجأة تتبع الصوت حتى تعرف إلى مكانه ..وجد الصوت
متورطة في ملاحقته .لهثت خلفه مسرعة فور أن ليلتها مبل ًل ،يرتعد من البرد ..ومنه ًكا من كثرة
لمحته يخرج من باب العربة ،دون أن تنتبه لحقيبتها البكاء .حمله بحرص ما بين كفيه ،تشممه بأنفه
التي تركتها معلقة فوق الرف الخشبي الذي كان واصطحبه معه إلى البيت ،أغلق الشبابيك وحاول أن
يعلو مقعدها .والتي ستقوم باستردادها فيما بعد
بالتواصل المتكرر والملح مع موظفي المحطة التي يدفئه .وقضيا ليلتهما الأولى م ًعا.
ركبت منها القطار يومها .ركضت خلفه ،وأوقفته منذ جاء صوتها معه إلى البيت ..ولم تعد أية
أصوات أخرى تزعجه ..وكأن العالم قد خلا حوله
كالمجنونة: من الأصوات والنبرات المؤذية .اكتشفت من حديثه
-أريد أن أتشمم يديك ،قالت. أن صوتها غير المسموع كان يصله هنا في هذا
لم يرد عليها ،لأن دهشته من طلبها عقدت لسانه، الكوخ وبمنتهى الوضوح ..لقد اعتاد أن يربت عليه
لكنها لم تسمح للدهشة ،ولا لانعقاد اللسان بردعها وقت الحزن .وأن يتحاور معه في أوقات الحيرة
والتساؤلات عن سبب الفقد وحكمته ..أخبرها أنه
عما كان محت ًما عليها فعله. ولمدة خمسة أشهر كان يسمعها بوضوح ،ويستمتع
انحنت على كفه تتشممها ،اضطرها هذا لحمل كفيه بكل ما يصله منها ،كان يستمتع حتى بسماع
ما بين كفوفها لبعض الثواني حتى أنهت مهمة
الشم .قبل أن ينزعهما من بين كفوفها ويحاول
التملص منها ومتابعة طريقه .لكنها لم تكن لتدعه
يرحل بتلك السهولة خاصة بعدما تأكدت من