Page 91 - Merit El-Thaqafyya 37 jan 2022
P. 91

‫‪89‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

    ‫وانقطعت شيئًا فشيئًا عن النطق والتواصل مع‬            ‫فيما عدا هي‪ .‬لو مدت كفها الافتراضي لتمس‬
     ‫الجميع‪ ..‬لم تعد تفتح شفاهها ولا حتى لتناول‬     ‫صدرها أو بطنها غير المرئيين ينفذ الكف منهما كما‬
   ‫طعام‪ .‬فقط تبتلع بعض قطرات بسيطة من المياه‪،‬‬        ‫لو كان ينفذ من الهواء‪ .‬ظلت تختفي وتختفي حتى‬
 ‫تبقيها على قيد الحياة‪ ..‬نحفت حتى أصبحت أشبه‬
‫بشبح يشاركهم بعض االهواء في نفس البيت‪ ،‬شبح‬              ‫نسيها الناس واعتقدوا أنها غير موجودة‪ .‬حتى‬
   ‫يحوم حول الزوج والصغار‪ ،‬يحاول أن يراعيهم‬                            ‫وهي أمامهم بشحمها ولحمها‪.‬‬
  ‫دون أن يقترب منهم أو يمسهم‪ ،‬ودون أن يكونوا‬
                                                     ‫لا تذكر من حكى لها تلك الحكاية‪ ،‬ولا حتى في أي‬
              ‫متأكدين من تمام وجوده أو غيابه‪..‬‬        ‫كتاب قرأتها‪ .‬تظن أحيا ًنا أن الأمر كله كان مجرد‬
    ‫في أحد الأيام‪ ،‬استيقظت بفكرة ملحة في رأسها‪.‬‬
    ‫قررت أن تسافر إلى نفس البلدة الساحلية التي‬                            ‫حلم رأته من سنوات فائتة‪.‬‬
 ‫زارتها قبل أن تفقد صوتها‪ ..‬فكرت أنها ربما تجد‬            ‫في مرة وبعد يأسها من عودة الصوت سألت‬
                                                         ‫زوجها أن يصفه لها‪ ..‬كانت قد افتقدته لدرجة‬
      ‫الصوت هناك في نفس المكان الذي فقدته فيه‪.‬‬         ‫موحشة‪ .‬فهي لم تسمعه منذ مدة طويلة‪ ..‬ارتبك‬
   ‫رحلت فج ًرا‪ ،‬قبل ميعاد استيقاظ الجميع‪ .‬تركت‬           ‫الزوج من السؤال‪ ،‬مكتش ًفا أنه لا يستطيع أن‬
‫رسالة ورقية لزوجها على مائدة السفرة التي أعدت‬
  ‫عليها طعا ًما كافيًا لإفطاره هو والصغار‪ .‬لم تكتب‬                       ‫يصف كيف يكون الصوت‪..‬‬
‫في الرسالة سوى أنها قد رحلت للبحث عن صوتها‬            ‫‪ -‬مجرد صوت‪ ،‬أجاب‪ ..‬مجرد اهتزازات حنجرية‬
                                                      ‫ينتج عنها موجات صوتية قابلة للسمع على هيئة‬
                                        ‫المفقود‪.‬‬    ‫جمل وكلمات‪ ..‬خيبت إجابته ظنها‪ .‬إذ بدا كما لو أنه‬
 ‫وصلت المرأة للبلدة الساحلية بعد ست ساعات من‬
  ‫السفر‪ ..‬لم تتناول خلالها كالعادة إلا بعض المياه‪.‬‬                ‫يقرأ لها فقرة من أحد الكتب الطبية‪.‬‬
 ‫استقلت مواصلة أخرى إلى الشاطيء الذي اعتادت‬           ‫حاولت التناسي والعودة لممارسة حياتها بشكلها‬
  ‫النزول فيه مع زوجها والصغار‪ ..‬كانت قد مضت‬         ‫السابق والمعتاد‪ .‬استأنفت متابعتها لدروس الصغار‬

     ‫خمسة أشهر على تلك الزيارة الأخيرة‪ ..‬أصبح‬           ‫بعد انقطاعها عنهم لشهر كامل‪ .‬بدأت تدرسهم‬
  ‫بعدها الطقس أكثر برودة‪ ..‬والمكان شبه مهجور‪..‬‬         ‫دون أن تكون قادرة على سماع ما تقوله‪ ،‬لكنهم‬
                                                    ‫كانوا يهزون رؤوسهم ويعبرون عن الفهم بكل لغة‬
    ‫لكنها كانت متحمسة‪ ..‬مشطت الرمال بحثًا عن‬           ‫أو إشارة يملكونها‪ .‬أما بقية اليوم فكانت تقضيه‬
    ‫الصوت وكأنه شيء مادي ستتمكن من إيجاده‬            ‫ما بين البكاء والغناء‪ ..‬كانت تبكي وتغني في نفس‬
 ‫والتعرف إليه فور رؤيته‪ .‬حفرت بيديها في طبقات‬         ‫الوقت‪ ..‬ولأنها لم تكن تسمع‪ ..‬فلم تكن تميز أيها‬
 ‫الرمال الجافة والرطبة‪ ..‬فتشت القواقع والمحارات‬         ‫الغناء وأيها البكاء والنهنهة‪ ..‬كانت تغني طوال‬
 ‫التي كان يرميها الموج على الشاطيء‪ ..‬اقتربت أكثر‬
‫من البحر‪ ..‬ولجته بقدميها قبل أن تغوص في مياهه‬            ‫الوقت‪ ..‬من الصبح وحتى المساء‪ ..‬تغني بينما‬
  ‫بكل جسدها‪ ..‬خرجت منه بعد عدة ساعات خالية‬             ‫تطهو‪ ،‬بينما تغسل الأصحن‪ ،‬بينما تنظف المنزل‪،‬‬
  ‫الوفاض من كل شيء‪ .‬لكن لمحها رجل أربعيني‪..‬‬
     ‫حاول أن يتكلم معها لكنها كانت في حالة إعياء‬        ‫بينما تنشر ملابس الصغار على أحبال الغسيل‬
     ‫شديدة لم تسمح لها بالنطق ولا برد الكلمات‪..‬‬       ‫الخارجية‪ ..‬في مرة صفق لها الصغار تشجي ًعا لها‬
 ‫أجلسها على الرمال البعيدة نسبيًّا عن البحر‪ ،‬حتى‬       ‫على الأغنية التي أدتها بصوت رائع‪ ..‬كان مقط ًعا‬
‫تستمد منها بعض الدفء‪ ..‬حين هدأت قلي ًل وبدأت‬
‫في استعادة أنفاسها التي انقطعت من كثرة السباحة‬                          ‫محببًا من إحدى أغاني وردة‪:‬‬
    ‫والغوص‪ ..‬حاولت أن تفتح شفتيها لتجيب على‬                     ‫بنحب يا ناس نكدب لو قلنا مابنحبش‬
‫أسئلة الرجل ولكنها لم تق َو‪ ..‬سألها الرجل بعفوية‪:‬‬           ‫بنحب يا ناس ولا حدش ف الدنيا ماحبش‬
                                                            ‫دي الدنيا يا ناس من غير الحب ماتتحبش‬
                              ‫هل فقد ِت صوتك؟‬           ‫كان صوت الأم رائ ًعا بالفعل حتى من قبل أن‬
  ‫اندهشت من سؤاله‪ ،‬فهزت رأسها بالإيجاب دون‬           ‫تفقده‪ .‬لكنهم ناد ًرا ما سمعوا غناءها‪ ،‬لم يكن لديها‬
                                                    ‫الوقت ولا البال الرائق للغناء‪ ،‬أعباء البيت والصغار‬
                                      ‫أن تنطق‪.‬‬
                                                                      ‫كانت تشغل بالها معظم الوقت‪.‬‬
                                                      ‫لم تنس الأم صوتها المفقود أب ًدا‪ .‬بل ازداد حزنها‬
                                                       ‫عليه‪ .‬وبمرور الأيام فقدت ج َّل رغبتها في الحياة‬
   86   87   88   89   90   91   92   93   94   95   96