Page 95 - Merit El-Thaqafyya 37 jan 2022
P. 95

‫‪93‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

                                   ‫بسواه بدي ًل‪.‬‬                                           ‫رائحتيهما‪:‬‬
‫تتذكر أنه ربما لعق شفاهها أو امتص ريقها‪ ،‬خلسة‬                       ‫‪ -‬انتظر‪ ،‬إنهما برائحة الطين‪ ..‬قالت‪.‬‬
                                                           ‫حدجها بنظرة ثاقبة وسبها بطريقة فجة مدي ًرا‬
  ‫أي ًضا‪ ،‬حتى يجعلها طوال الوقت عطشى لا ترتوي‬           ‫لها ظهره‪ .‬عادوت الركض‪ ،‬أمسكت بقميصه حتى‬
   ‫إلا من يديه‪ .‬كلما كانت تباغتها تلك الأفكار تتأكد‬    ‫كادت أن تنزعه‪ .‬تفادت إحدى يديه التي كانت تهم‬
 ‫أن هذا ما يجعل العاشق يبرر لمعشوقه أي ذنب أو‬
   ‫تقصير في حقه‪ .‬مرج ًعا كل فعاله للمحبة متغاف ًل‬                              ‫بصفعها تقريبًا‪ ..‬وقالت‪.‬‬
‫عن أي أفعال تنم عن سوء النوايا كالأنانية والأثرة‪.‬‬                                      ‫‪ -‬إنها رائحتي‪.‬‬
                                                                                             ‫‪ -‬نعم؟!!‬
       ‫لم تنصرف يومها من أمامه إلا بعدما هددها‬
  ‫بتسليمها للشرطة‪ .‬لحظتها انفجرت فيه‪ ،‬وتحولت‬              ‫‪ -‬رائحتي‪ ،‬طينتي‪ ،‬هذا الطين الذي يلطخ يديك‬
                                                                                             ‫يخصني‪.‬‬
                  ‫توسلاتها إلى تهديدات صريحة‪:‬‬
    ‫‪ -‬سوف تفقد نفسك‪ ..‬ستتحول إلى مجرد كتلة‬              ‫اتجهت عينيه لا إراد ًّيا تجاه الكفوف التي ان ُتزعت‬
  ‫مهملة من الطين‪ .‬انصرف من أمامها مستق ًل أحد‬             ‫للتو من بيد يديها‪ ،‬رفعهما قبالته‪ ،‬أدارهما أمام‬
  ‫عربات الأجرة‪ ،‬بينما سقطت هي تبكي في مكانها‪.‬‬
    ‫بعد عدة أيام‪ ..‬كانت أصابعه قد تحولت إلى لون‬         ‫ناظريه أكثر من مرة‪ ،‬قبل أن يحدجها بنظرة أكثر‬
 ‫بني غريب‪ ..‬قبل أن تلين وتفقد مفاصله القدرة على‬                                      ‫عن ًفا من سابقتها‪.‬‬
   ‫الانثناء والحركة‪ ،‬لتسقط الأصابع الخمسة فجأة‬
    ‫فوق مكان منبتها من الكف‪ ..‬هذا قبل أن يتحول‬          ‫‪ -‬انتظر‪ ،‬لتفهم‪ .‬لكل منا خالق صغير‪ ،‬تشارك مع‬
‫الكف والجسد كله جز ًءا بعد جزء إلى كتلة هائلة غير‬         ‫الخالق لحظة تشكيلنا‪ .‬هذا الصانع تتلطخ يديه‬
 ‫مميزة الشكل أو الملامح‪ .‬حاول أن يصرخ حين بدأ‬
   ‫يدرك الأمر‪ ..‬لكن بركة هائلة من الطين كانت قد‬       ‫بطينة شريكه‪ ..‬أعني أن الشريكين يحمل كل منهما‬
                                                                         ‫جز ًءا من طينة الآخر على كفه‪.‬‬
                         ‫ابتلعته كام ًل في جوفها‪.‬‬
   ‫تنهد قلي ًل بعد انتهائه من القراءة‪ ،‬لكنه لم يتمكن‬     ‫الشريك هو الوحيد الشاهد على عملية الخلق‪ ،‬هو‬
    ‫من كبح الدموع التي انسابت منه حين‪ .‬أخبرها‬            ‫الوحيد القادر على رؤية الطين الأول الذي انحدر‬
 ‫أنه قد اعتاد على صوتها وائتنس به لأشهر عديدة‪،‬‬          ‫منه شريكه‪ ..‬لو دققت في يدي لرأيت طينتك‪ ..‬من‬
   ‫حتى غدا صديقه الوحيد‪ ،‬وأن فراقه أصبح يشق‬
‫عليه‪ ..‬ترجاها أن تغني له ولو مقط ًعا واح ًدا قبل أن‬       ‫فضلك حاول أن تفهم‪ ،‬أو أن تتشمم طينتك من‬
  ‫ترحل‪ ..‬استجابت المرأة بعدما أشفقت على دموعه‬          ‫كفي‪ ..‬قالت كلماتها الأخيرة تلك بينما كانت تقرب‬

      ‫التي انهمرت أمامها كشلال‪ ..‬بدأت في الغناء‪..‬‬        ‫يديها من أنفه‪ ..‬قبل أن يستشيط غاضبًا‪ ،‬ويزيح‬
  ‫ولم تتوقف إلا بعدما رأته وهو يغفو أمامها بعدما‬                       ‫كفها بضربة عنيفة من أحد كفيه‪.‬‬
‫سحره الصوت بجماله‪ ..‬فكرت بعدها أن تتسلل من‬
   ‫الكوخ أثناء نومه فلا يضطر لرؤيتها وهي راحلة‬             ‫هي تؤمن بتلك الحكاية‪ ،‬قرأتها في أحد الكتب‪،‬‬
                                                         ‫أو راتها في أحد مناماتها‪ .‬كانت متأكدة أن الأمر‬
    ‫فتخفف ولو قلي ًل من وقع الحدث‪ ..‬ولكن ما إن‬         ‫حقيقي‪ .‬مذ رأته وهي تشعر أن يديه هما من كانتا‬
  ‫بدأت في الابتعاد عن الكوخ‪ ،‬حتى شعرت بصوتها‬            ‫تنحتانها مع يد الله‪ ..‬كانا يصنعانها معه ي ًدا بيد‪..‬‬
                                                       ‫يد تكور والأخرى تنحت‪ ،‬يد تبرز الأنف ويد تحفر‬
     ‫وهو يخرج من حنجرتها ويفارقها من جديد‪..‬‬            ‫وتمهد تجوي ًفا ملائ ًما للعينين‪ .‬وهكذا ي ًدا بيد حتى‬
   ‫تتبعت الصوت الذي دخل متسل ًل إلى البيت الذي‬          ‫ُخلقت وانبعثت من رحمه رغم أنه بلا رحم‪ .‬لكنها‬
   ‫آواه واهتم به طوال الأشهر الفائتة‪ ..‬عادت المرأة‬     ‫ظلت تبحث عنه لتقبل يديه‪ ،‬لتقلبهما وتفتش فيهما‬
  ‫للكوخ‪ .‬مسحت بعينيها الدموع التي كانت لا تزال‬          ‫عن رائحة طينتها الأولى لتفتش فيهما عن نفسها‪،‬‬
‫تطفر من عين الرجل‪ ،‬استعادت صوتها وأيقظته به‪.‬‬
 ‫فاستفاق من غفوته على صوتها‪ ..‬دخلت أنفيهما في‬                                      ‫وعن رائحة يد الله‪.‬‬
  ‫ذات اللحظة رائحة واحدة ومحببة‪ ..‬وقت أن أتمت‬         ‫تعرف أن أحد الشريكين يتخابث أحيا ًنا بعد الانتهاء‬

                ‫أغنيتها‪ :‬من غير الحب ما تتحبش‪.‬‬              ‫من مرحلة التشكيل الجسدي ويدس في رأس‬
                                                        ‫الشريك الآخر بع ًضا من أحداث وأشياء لا تخص‬
                                                      ‫سواه‪ ،‬كي يتأكد أنه لن ينساه وكي يتأكد أي ًضا أنه‬
                                                        ‫سيظل يبحث عن صاحب تلك الرائحة والخيالات‬
                                                      ‫التي تتحرك طوال الوقت في رأسه‪ ،‬وأنه لن يرضى‬
   90   91   92   93   94   95   96   97   98   99   100