Page 85 - ميريت الثقافية- العدد 21 سبتمبر 2020
P. 85

‫‪83‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

     ‫لم أفارق هذه اللحظة أب ًدا‪ ،‬وكل ما حدث لي بعد‬    ‫بوجهه إلى ساقيه‪ ،‬محاو ًل كتم نوبة بكاء‪ .‬جلست على‬
‫انتهاء خدمتي العسكرية من العمل محاسبًا في شركة‬           ‫طرف السرير خائ ًفا‪ ،‬لكنه هدأ بعد قليل وقال وهو‬
‫صغيرة لقطع غيار السيارات في مدينتي الصغيرة‪ ،‬ثم‬                                    ‫يغطي نفسه ببطانيته‪:‬‬
‫الانتقال للعمل في شركة سياحة في الغردقة والزواج‬                                ‫“سأهرب من المعسكر”‪.‬‬
 ‫والإنجاب‪ ،‬كل ذلك وهم‪ ،‬وتسيطر عل َّي كثافة اللحظة‬       ‫أخافتني جديته وعرفت أنه يمكن أن يفعلها‪ ،‬حاولت‬
 ‫القديمة بكل ثقلها وتهيمن على خيالي‪ ،‬أن ما أظنه قد‬                                   ‫التحايل عليه قائ ًل‪:‬‬

   ‫حدث بعد الخدمة العسكرية ما هو إلا أحلام يقظة‬        ‫“لم يبق لنا غير أشهر قليلة‪ ،‬في أبريل سوف تنتهي‬
  ‫جندي ومشاريع المستقبل التي يخطط لها في أثناء‬                                               ‫خدمتنا”‪.‬‬

                                  ‫خدمة السلاح‪.‬‬           ‫رفع البطانية وجلس مرة أخرى على السرير وقال‬
                                                                                                ‫بيقين‪:‬‬
                    ‫الريشة‬
   ‫يتحدث عن الريشة في الميزان‪ ،‬عن فكرة التوازن‪،‬‬                    ‫“ومن أدراني أن أبريل سوف يجيء؟”‬
‫القانون‪ ،‬الحق‪ .‬الشعرة الدقيقة التي تحول الشيء من‬       ‫عندها توقف عقلي‪ ،‬فقد كان السؤال مفح ًما وفيه من‬
 ‫حلو إلى حامض‪ ،‬الحب إلى كراهية‪ ،‬والخير إلى شر‪،‬‬
‫الطبخة الجيدة إلى طعام ماسخ‪ ،‬يتحدث عن “ماعت”‪،‬‬             ‫الاحتمال ما في نقيضه‪ ،‬وصوت في داخلي يكرر‬
                                                      ‫السؤال كأنه يطلب إجابة لي‪ ،‬لا لعبد الصمد‪ .‬قلت كي‬
     ‫عن فكرة الحق‪ ،‬الضائعة في حياتنا‪ ،‬عن التوازن‬
‫الضائع في الألحان غير الجيدة‪ ،‬ويرى أن اللحن الجيد‬        ‫أنفذ من الفخ محاو ًل أن أقنع نفسي قبل أن أقنعه‪:‬‬
                                                                      ‫“حركة الحياة‪ ،‬قانون الكون‪ ،‬ربنا”‪.‬‬
    ‫هو قانون جيد‪ ،‬الحياة الطيبة هي قانون طيب‪ ،‬ثم‬                                   ‫جاء إجابته الحاسمة‪:‬‬
 ‫يتحدث عن فترات الاضطراب التي تفر فيها “ماعت”‬
                                                              ‫“وافرض أن كل هذا تعطل ولم يجئ أبريل”‪.‬‬
                                      ‫من الحياة‪.‬‬         ‫يبدو أنه قد فكر في الأمر طوي ًل واقتنع أن خدمته‬
‫الحياة لا تحتمل عندما تغيب عنا الريشة‪ ،‬ويترجم من‬
                                                             ‫العسكرية لن تنتهي‪ .‬كان الشعور قو ًّيا وعني ًدا‬
  ‫بردية قديمة أحد الأناشيد القديمة في مدح الريشة‪،‬‬      ‫وواقعيًّا‪ ،‬وسيطرت عليه فكرة أن الزمن قد توقف بنا‬
  ‫لا يقدم دلي ًل‪ ،‬لكن وجهه العجوز الطيب يوحي بأنه‬
                                                         ‫هنا‪ ،‬وأنه قد حكم علينا إلى الأبد أن ندور في حلقة‬
     ‫بحث طول عمره عن الماعت ولم يجدها‪ ،‬في غير‬              ‫مفرغة‪ ،‬ويبدو أن الموضوع كان أكثر جدية مما‬
  ‫زوجته الست “نصرة البرعي” التي تركت كل شيء‬
 ‫وعاشت مع مدرس التاريخ الشاب في قرى محافظة‬               ‫أتخيل‪ ،‬فبعد عدة أيام كنت أبحث عنه لكي أبلغه أنه‬
   ‫المنيا‪ ،‬ثم اضطرت أن تسكن معه في بيت قديم في‬        ‫أعفي اليوم من خدمة السلاح‪ ،‬لم أجده لا في الكانتين‬
‫حوش بجوار السيد البدوي‪ ،‬حتى انتهى من الحصول‬
  ‫على الدكتوراه في التاريخ القديم‪ .‬ظلت تسنده أثناء‬       ‫ولا في الحملة‪ ،‬وفي تمام الصباح أعلنوا فراره من‬
  ‫فترات الاضطرابات عندما قبض عليه من عام ‪1959‬‬                                                ‫المعسكر‪.‬‬
  ‫إلى عام ‪ 1964‬هذه هي الحبسة الكبيرة‪ ،‬كما يعرف‬
 ‫تلاميذه ومحبوه‪ ،‬ثم حبسات صغيرة في السبعينيات‬                ‫أنهيت خدمتي العسكرية ولم أعرف شيئًا عما‬
  ‫والثمانينيات‪ ،‬وفي التسعينيات ذهبوا ليقبضوا عليه‪،‬‬         ‫حدث لعبد الصمد‪ ،‬لكنني أحيا ًنا في لحظات بين‬
   ‫لكنه كان مساف ًرا منتد ًبا في إحدى جامعات اليابان‬      ‫النوم واليقظة‪ ،‬أرى عنبر الكتبية‪ .‬الأسرة المتقابلة‬
                                                         ‫على الجانبين‪ .‬السقف المحدب من الصاج‪ ،‬واللمبة‬
      ‫للحديث عن “الريشة”‪ ،‬والآلهة القديمة‪ .‬قابلتهم‬        ‫الوحيدة التي تضيء المكان بنور مغبش‪ ،‬وصوت‬
                                                          ‫الريح يحف بجدران العنبر مسمو ًعا في تلك الليلة‬
                                                          ‫الشتوية في الصحراء‪ ،‬وعبد الصمد يقول بحسم‪:‬‬
                                                        ‫“ومن أدراني أن أبريل سوف يجيء؟” وأشعر أنني‬
   80   81   82   83   84   85   86   87   88   89   90