Page 94 - ميريت الثقافية- العدد 21 سبتمبر 2020
P. 94

‫العـدد ‪21‬‬    ‫‪92‬‬

                                                              ‫سبتمبر ‪٢٠٢٠‬‬

‫أيمن بيك‬

‫(السودان)‬

‫قطار بأجنحة بيضاء ووجه عجوز‬

    ‫أطير فوق قريتنا‪ ،‬تلك الجزيرة الصغيرة وسط النيل‪،‬‬             ‫قطرة المطر الصغيرة‪ ،‬في صومعتها أعلى السحاب‪ ،‬في‬
   ‫وكأن الوقت ليل‪ ،‬رأيت مسعود يتوسط الصغار‪ ،‬وهو‬
   ‫يضرب على الأرض بيده لينال انتباههم‪ ،‬البدر باد من‬           ‫ذلك اليوم الخريفي من شهر سبتمبر‪ ،‬كانت تتأهب للنزول‬
   ‫غير احتجاب أو ضجر‪ ،‬والنجوم المبعثرة على صفحة‬
    ‫السماء السوداء تبدو أجمل من المعتاد‪ ،‬تتراقص مثل‬             ‫نحو الأرض المثقلة بالجفاف‪ ،‬وخيالها الحالم ُيص ّورها‬
 ‫فتيات افرنجيات‪ ،‬بينما اكتفت النسائم الباردة به ّز جريد‬                  ‫قديسة بحجم قطرة‪ ،‬تراقب الأرض في حب‪.‬‬
 ‫النخل المنتشر هنا وهناك‪ ،‬نعم أنا أطير فوق القرية على‬
  ‫الجزيرة الصغيرة‪ ،‬بيوتنا هنا منذ مئات السنين‪ ،‬منذ أن‬           ‫و ُك ْن ُت أنا قطرة المطر الآدمية‪ ،‬أجلس على مقعد المحطة‬
   ‫قرر جدي الرجل الصوفي الصالح‪ ،‬أن يحرك الجزيرة‬                  ‫الخشبي‪ ،‬جلو ًسا يليق بطفل صغير‪ ،‬أمرجح ساق ّي إلى‬
                                                              ‫الأمام والخلف‪ ،‬وأراقب الناس يتحركون بشغف‪ ،‬يمشون‬
      ‫النائية بعصاة من خشب حرازة‪ ،‬غرسها في أرض‬
    ‫الجزيرة ثم قال سيري فسارت ببركته‪ ،‬ومن أقصى‬                   ‫أمامي‪ ،‬يتجمعون عند نقطة واحدة‪ ،‬بعضهم يتذمر من‬
‫أقاصي الشمال انطلقت‪ ،‬شقت النيل إلى نصفين وارتكزت‬
  ‫هنا فبنى فيها بيتًا‪ ،‬أنا الآن فوقها تما ًما‪ ،‬أعلوها بمقدار‬    ‫قرب هطول المطر‪ ،‬من الريح الباردة التي تهب في قوة‪،‬‬
 ‫جناحين مرفرفين‪ ،‬أرى والدي ووالد مسعود يتسامران‬
  ‫أمام الدكان‪ ،‬وأوراق اللعب متناثرة على الرمل أمامهما‪،‬‬                              ‫والبعض الآخر مغبوط وينتظر‪.‬‬
 ‫وأرى مسعود الآن وقد ضرب طف ًل على قفاه بقوة ولم‬
    ‫يبك الطفل‪ ،‬لا بد وأنه قد تعود على ضربات مسعود‬                ‫نظرت نحو السماء الحبلى بملايين القطرات الصغيرة‪،‬‬

                                                                 ‫رأيتها تبتسم لي جمي ًعا‪ ،‬كانت سعيدة لأجلي‪ ،‬وسمعت‬
                                                                  ‫صوت َها جليًّا‪ ،‬تهتف رع ًدا‪ :‬اليوم أيها الصغير‪ ،‬سترى‬
                                                                   ‫قطا ًرا لأول مرة في حياتك‪ ،‬كيف هو؟ ألا تذكر قول‬
                                                                   ‫مسعود؟ عندما كنتما تلعبان سو ًّيا تحت ضوء القمر‬

                                                               ‫(إن القطار يطير بأجنحة بيضاء وطويلة‪ ،‬وله وجه رجل‬

                                                                                                      ‫عجوز)؟!‬
                                                                 ‫َس ِم ْع ُت صافرة القطار‪ ،‬لكنه لم يظهر بعد‪ ،‬وكأنه قادم‬

                                                                   ‫من مكان ما أغور من هذه الأرض المنبسطة أمامي‪،‬‬

                                                                    ‫كانت صافرة عالية وبعيدة‪ ،‬فانتصب ُت واق ًفا‪ ،‬أخذت‬
                                                                   ‫شهي ًقا ثم نظرت إلى السماء‪ ،‬وقلت في نفسي‪ ،‬اليوم‬

                                                                  ‫أبدأ رحلة طويلة‪ ،‬مثل قطرات المطر تما ًما‪ ،‬وأغمضت‬
                                                                 ‫عيني الصغيرتين لدقائق‪ ،‬رأيتني أمتطي القطار وأطير‪،‬‬

                                                              ‫أجنحة القطار بيضاء من غير سوء طويلة وكبيرة‪ ،‬رأيتني‬
   89   90   91   92   93   94   95   96   97   98   99