Page 95 - ميريت الثقافية- العدد 21 سبتمبر 2020
P. 95

‫‪93‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

   ‫الأرض‪ ،‬أين أجنحته‪ ،‬ولماذا ليس له وجه رجل عجوز‪،‬‬           ‫أخي ًرا‪ ،‬مثلي تما ًما‪ ،‬ابتسمت ابتسامة خفيفة‪ ،‬أتذكره وهو‬
                                                             ‫يرفعني عن الأرض بعد أن أوسعني ضر ًبا‪ ،‬أمسك يدي‬
  ‫فعرفت أن مسعود كان يكذب أو أنه يجنح بخياله‪ ،‬لكني‬           ‫بقوة وضحك ثم قال‪ :‬بعد الآن لن أضربك لقد أصبحت‬

‫لم أشعر بالسوء‪ ،‬وانفرج فمي مبتس ًما‪ ،‬عيناي الصغيرتان‬       ‫كبي ًرا‪ ،‬سمعت والدي يقول بأنك أكملت الأولية‪ ،‬وستسافر‬
     ‫صارتا مثل فنجانين فارغين إلا من الدهشة‪ ،‬هذا هو‬            ‫بالقطار إلى المدينة لإكمال المتوسطة‪ ،‬يا لك من فتًى‬
   ‫القطار إ ًذا‪ ،‬وهؤلاء هم المسافرون على ضفتي السكة‪،‬‬
                                                             ‫كبير‪ ،‬لن أضربك بعد اليوم‪ ،‬لم يمضي على ذلك الكثير‪،‬‬
    ‫وها أنا ذا هنا لا أقوى على شيء سوى الركوب عبر‬
   ‫البوابة‪ ،‬أزاحم رجا ًل ونسا ًء يتلهفون إلى السفر‪ ،‬لأعبر‬      ‫أيام قليلة ارتحلت بعدها إلى مدينة عطبرة في طريقي‬
 ‫إلى داخل هذا العالم الغريب عني أنا ذلك الطفل الصغير‪.‬‬
                                                              ‫إلى كسلا‪ ،‬أتذكر ابتسامته وهو يودعني‪ ،‬وأتذكر دمعة‬
    ‫بحثت عن مقعد قرب الشباك‪ ،‬لأكون قريبًا من العالم‪،‬‬
   ‫أمر عليه بسرعة‪ ،‬وأراقب كل شجرة تسابق القطار من‬             ‫تتدحرج على ذلك الخد الصغير المنتفخ‪ ،‬ربما سيفتقد‬
 ‫بعيد‪ ،‬وضعت يدي على النافذة‪ ،‬جاع ًل مرفقي بار ًزا نحو‬
‫الخارج‪ ،‬وأخذ القطار يتهادى على السكة يشق طريقه نحو‬                                      ‫قفاي الذي ورمته يده‪.‬‬

   ‫الشمال الشرقي‪ ،‬وفي لحظة أخذت أراقب النيل‪ ،‬يرافق‬           ‫القرية من هذا المكان تبدو أجمل‪ ،‬خشيت ألا أعود إليها‬

  ‫السكة أحيا ًنا حتى يكاد يلمسها‪ ،‬ثم ينحرف عنها وكأنه‬         ‫يو ًما‪ ،‬فحسب علمي أن المدن ملعونة‪ ،‬ما أن تطأ قدمك‬
   ‫يودعها‪ ،‬وفي مرات كثيرة يتعرج فر ًحا‪ ،‬ويرسل نسمة‬           ‫أرضها حتى تحبسك فيها‪ ،‬تلتف حولك مثل أفعى سامة‬

                     ‫باردة تمسح على خدي الصغير‪.‬‬              ‫وعنيفة‪ ،‬وتنشب أنيابها فيك بقوة‪ ،‬فتنسى ذاتك وأهلك‪،‬‬

     ‫لا شيء أسعد منا نحن الاثنان‪ ،‬أنا والنيل‪ ،‬فبينما أنا‬                               ‫وترتدي كفن الإسمنت‪.‬‬

      ‫أريح يدي على النافذة منتظ ًرا أن يرسو القطار في‬      ‫لكزة قوية من حقيبة مسافر أعادتني إلى المحطة‪ ،‬والقطار‬
    ‫كسلا‪ ،‬لأقابل عمي هناك‪ ،‬فالنيل أي ًضا يجري مسر ًعا‬
  ‫نحو الشمال‪ ،‬يجري بلا كلل‪ ،‬صامت لا ينطق‪ ،‬وصامد‪،‬‬                 ‫أمامي يقف في شموخ‪ ،‬يبدو كما لو أنه يسير على‬

 ‫هو أقوى من أن تهزه مراكب صغيرة يحملها الموج على‬

    ‫ظهره‪ ،‬لا يأبه لثرثرة المطر ولا لزمجرة الرياح‪ ،‬يولي‬

  ‫وجهه شطر أبيه البحر‪ ،‬يأخذه إليه حب وشوق‪ ،‬وعطره‬

 ‫طمي ناعم وماؤه بلون البلح‪ ،‬لذلك هو سعيد‪ ،‬وأنا سعيد‬

                                           ‫لأجله‪.‬‬

   ‫ثم بدأ المطر يتساقط في نعومة‪ ،‬سقطت قطرة صغيرة‬

  ‫على يدي‪ ،‬أخذت أراقبها عن كثب‪ ،‬انتظرتها حتى تجف‪،‬‬

‫لكن قطرة أخرى سقطت فوقها‪ ،‬ثم توالى سقوط القطرات‬

    ‫حتى تبللت يدي كاملة‪ ،‬فانسحبت إلى الداخل وأغلقت‬

 ‫النافذة‪ ،‬لم أنزعج‪ ،‬بل تيقنت أن القطرات القديسة ظفرت‬

      ‫بما تريد‪ ،‬أن تروي هذه الأرض‪ ،‬أرحت رأسي على‬

     ‫الكرسي‪ ،‬أغلقت عيني فأحسست بالقطار يرتفع في‬

     ‫الهواء‪ ،‬لم أصدق‪ ،‬فتحت عيني وأخرجت رأسي عبر‬

  ‫الشباك‪ ،‬فرأيت أجنحة القطار البيضاء تلامس السحاب‪.‬‬
   90   91   92   93   94   95   96   97   98   99   100