Page 100 - merit 42 jun 2022
P. 100

‫العـدد ‪42‬‬   ‫‪98‬‬

                                                         ‫يونيو ‪٢٠٢2‬‬

    ‫تاري ًخا للأوطان‪ ،‬لا يمنع أن يراهن القارئ من‬           ‫الإيهام المُعلن بالواقعية‪ .‬إن الذات المبدعة تحاول‬
    ‫خلالها على المتعة‪ ،‬فحت ًما‪« :‬نص المتعة هو الذي‬          ‫عبر فكرة «التقنع» أن تمارس الكشف وتسريب‬
                                                            ‫الخطابات وطرف من حياتها في السرد؛ ليصبح‬
     ‫يضعك في حالة ضياع‪ ،‬ذلك الذي ُيتعب‪ ،‬لأنه‬
 ‫يجعل القاعدة التاريخية والثقافية والسيكولوجية‬                ‫السرد خطاب إدانة للواقع‪ ،‬أو خطاب انتصار‬
                                                             ‫للذات‪ ،‬والتغلب على هزائهمها‪ ،‬أو حتى امتلاك‬
    ‫‪-‬للقارئ‪ -‬تترن ُح‪ ،‬و ُيزعزع كذلك‪ ،‬ثبات أذواقه‬          ‫القدرة على التحرر والانعتاق من معاني قد تخص‬
        ‫وقيمه وذكرياته‪ ،‬ويؤز ُم علاقته باللغة»(‪.)5‬‬          ‫الذات وحدها‪ ،‬لكنها تمارس ضغ ًطا على الروح‪.‬‬
        ‫إذن تسريد الذات ليس معناه كتابة سيرية‬                 ‫لا شك أن كل حكاية تنطلق من مبدأ التخييل‪،‬‬
                                                            ‫وكل خيال ُيعيد إنشاء الواقع بقدرة ذاتية‪ ،‬ومن‬
   ‫خالصة‪ ،‬بل يحاول من خلالها المبدع أن يس ِّرب‬            ‫ثم فإن التلاحم الأكيد بين السرد والذات‪ ،‬يجعلنا‬
 ‫طر ًفا من حياته أو كل حياته في فضائه السردي‪،‬‬                  ‫نتصور أن السرد إن هو إلا محاولة لتسريد‬
                                                              ‫الذات‪ ،‬ورغبة في تجليها في الكتابة؛ مما يجعل‬
    ‫ربما هرو ًبا من فكرة السيرة الذاتية الصريحة‬            ‫من النص السردي مساحة للحرية‪ ،‬يبوح الكاتب‬
‫التي تحتاج إلى المكاشفة والاعتراف‪ ،‬وربما انحيا ًزا‬           ‫في فضائها بما يعتوره من مواجد‪ ،‬وما يسكت‬
                                                              ‫عنه في العقد السيري‪ ،‬فالكتابة بحسب رولان‬
   ‫لفكرة التخييل السردي أكثر من واقعية السيرة‬               ‫بارت تصدر عن ذوات تتنازعها الأبعاد‪ :‬الخفية‬
    ‫الذاتية‪ .‬وهكذا كتب لنا نجيب محفوظ «أصداء‬                ‫والظاهرة‪ ،‬بل هي وسيلة للتداوي والاستشفاء‪،‬‬
      ‫السيرة الذاتية» التي جاءت كلوحات سردية‬             ‫فكل بناء سردي يتضمن في مستوى من مستوياته‬
                                                             ‫بع ًضا من الذات‪ .‬حتما‪« :‬هناك أشياء كثيرة في‬
  ‫مكثفة‪ ،‬وبلغة شعرية شديدة العمق‪ ،‬وتحتاج إلى‬               ‫روايتي ُكتبت على عجل وتبدو غير ُموفقة‪ ..‬أنا لا‬
 ‫كثير من التأمل‪ ،‬وكأنها تجليات فلسفية لمشروعه‬               ‫أقف إلى جانب الرواية‪ ،‬لكني أق ُف في النهاية إلى‬
                                                             ‫جانب فكرتي»(‪ ،)2‬والدلالة الاجتماعية لتسريد‬
                                   ‫الروائي كله‪.‬‬          ‫الذات في فضاء تخييلي يكون متضمنًا لرؤية العالم‬
     ‫من هنا يمكن قراءة رواية «بحجم حبة عنب»‬                  ‫لدى هذه الذات‪ ،‬وذلك‪« :‬لأن المتكلم في الرواية‬
  ‫للكاتبة منى الشيمي بمقاربة تلك المساحة البينية‬          ‫هو دائ ًما وبدرجات مختلفة منت ُج أيديولوجيا لأن‬
  ‫بين ما هو إحالي وما هو تخييلي‪ ،‬المساحة البينية‬             ‫الكلمات هي عينة أيديولوجية‪ ،‬واللغة الخاصة‬
‫بين الواقعي والمرجعي (البعد السيري) والتخييلي‪،‬‬                 ‫برواية ما تقدم وجهة نظر خاصة عن العالم‬
    ‫فلا نستطيع أن نجنسها سيرة ذاتية صريحة‪،‬‬                 ‫تنزع إلى دلالة اجتماعية»(‪ )3‬وحضور الذات‪ ،‬هو‬
    ‫تعتمد على الاعتراف والمكاشفة‪ ،‬وتحقق الميثاق‬             ‫نقطة التقاطع المكثفة بين العام والخاص‪ ،‬ونعثر‬
‫السيري ذاتي الذي طرحه الفرنسي فيليب لوجون‪،‬‬                  ‫على ما هو شخصي من خلال وعينا بأن الذات‬
 ‫حيث ع َّرف السيرة الذاتية بأنها «حكي استيعادي‬            ‫الكاتبة‪ ،‬التي تتخفى وتتقنع بحيل شتَّى تلهينا عن‬
 ‫نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص‬                   ‫ملامحها التي تقبع في البؤرة العميقة للخيار الفني‬
  ‫وذلك عندما ير ِّكز على حياته الفرد َّية وعلى تاريخ‬        ‫وتسوق ُمجمل وجهات النظر‪ .‬ورغم أن البعض‬
   ‫شخصيَّته بصفة خا َّصة»(‪ ،)6‬كما لا نستطيع أن‬            ‫يرى أن الكتابة‪« :‬هي التاريخ الشخصي للأوطان‪،‬‬
  ‫نجنسها عم ًل روائيًّا تخييليًّا صر ًفا‪ ،‬لأننا بتأملها‬       ‫وتستوجب بحثًا وتنقيبًا في الحياة الاجتماعية‬
‫نجد الكاتبة واعية بتلك المساحة البينية بين السيرة‬             ‫برمتها»(‪ )4‬إلا أن الأمر لا يخلو من البحث عن‬
                                                           ‫التاريخ الشخصي للذات‪ ،‬على ألا يصبح حضور‬
                                      ‫والتخييل‪.‬‬           ‫الذات طاغيًا ومباش ًرا وإلا تحولت إلى سيرة ذاتية‬
  ‫ينطلق السرد في الرواية باكتشاف مرض «زياد»‬                ‫لا يفلح فيها التقنع‪ ،‬كما أن الكتابة هنا باعتبارها‬
  ‫ابن الساردة (منى)‪ ،‬حيث يخبرها دكتور العيون‬

     ‫الذي ذهبت إليه برفقة ابنها الأصغر وزوجها‬
      ‫لعلة أصابت عيني زياد‪ ،‬يخبرها الدكتور أن‬
      ‫تذهب بابنها إلى طبيب «مخ وأعصاب»‪ ،‬بهذه‬
 ‫الجملة تنطلق مسيرة السرد‪ ،‬ومسيرة علاج زياد‬
   ‫من ورم صغير «بحجم حبة عنب» أصاب مخه‪:‬‬
‫«زياد‪ ..‬سأخبرك عن الحياة التي كان من حقك أن‬
   95   96   97   98   99   100   101   102   103   104   105