Page 70 - merit 42 jun 2022
P. 70
العـدد 42 68
يونيو ٢٠٢2
حاتم رضوان
نار خلف النافذة
إليها حبه وحبيبته وأيام عمره الفائتة ،واراهم وداع مرير بطعم قصة حب طويلة خنقتها يده
الثرى ،وأقام شاه ًدا عليها ،ثم غادر إلى هنا بوجه القصيرة ،لا يملك غير بيت صغير وبسيط ورثه عن
جامد ومنحوت من حجر ،تنطق ملامحه بتراكم كل
هموم العالم فوق سطحه ،خرج مثل فرعون تائه أبيه ،أشبه بالكوخ ،أقيم على أطراف القرية حيث
من جدران أحد المعابد ،يبحث عن شيء ضائع ،أو يبدأ طريق الجبل والمقابر ،لم ي َر فيه من الدنيا غير
كهارب من معركة خاسرة ،تحمله عربة قطار درجة
ثالثة ،وجد نفسه محشو ًرا فيها مع سرة ملابس الجنازات الصاعدة إلى نهايته ،أو قاطعي الطرق
وأشياء قليلة ،لأول مرة في حياته يترك دنياه التي واللصوص والقتلة ،يتسللون إليه لي ًل لتبتلعهم
ولد وعاش فيها ،بكل ما بها من ألم وأسى ،خيبات الكهوف والمغارات الموحشة في دروبه غير المأهولة.
وفشل ،شظف وفقر ،ليدخل دنيا وحياة جديدة، أصدر أبوها الفرمان ،فقير وجميلة لا يجتمعان،
عالمين يفصل بينهما محطات -في نوبة توهانه- لؤلؤة فريدة يندر وجودها في هذا العب من الصعيد،
فشل في عدها ،وساعات سفر طويلة لم يحسبها، جسد فائر وممشوق ،شعر بني تنفلت خصلاته
دائ ًما من تحت الطرحة ،لتتطاير مع الهواء ،بشرة
ساعده قريب له على اقتحامها ،وتعريفه على سمراء وعينان خضراوان ،عشقهما حتى النخاع،
أبجديات الحياة بها ،استقبله على رصيف المحطة، تقدم إليها لا يحمل غير حبها في قلبه الأخضر،
واستضافه لأيام حتى يسر له مستقبله بها ،أملى سقط رفض أبيها كحجر أفلت من قمة الجبل فوق
رأسه :قل لي سببًا واح ًدا أترك هذا الطابور الطويل
عليه نصائح السابقين ،احتفظ بها طوال سنين
مكوثه في قلبها ،وأضاف عليها من خبراته ،أشار من ال ُخطاب ،أرض ومال وعز ،وأقبل بك.
له على مواضع الحذر ،ومواطن الزلات والهوى، خلَّ َف وراءه حبيبته والبيت والجبل وطريق المقابر،
ليتركه محصنًا من فتن مدينة الألف مئذنة ،تؤويه
غرفة ملحقة بمنافعها ،تطل على عالم جديد ،بيوت وقرر الرحيل ،كانت هي الدافع والسبب الوحيد
غير البيوت ،تواجهه أينما ولى ،متلاصقة وقريبة، لبقائه ،واحتماله عبوس الحياة وقسوتها ،ما الذي
وجيران يسكنونها لا يعلم عنهم شيئًا ،أعمالهم،
أخلاقهم ،وطبائعهم ،علاقات بعضهم ببعض ،هل سوف يتب َّقى له من بعدها؟ تراب وقش وأشياء
ولدوا وعاشوا فيها من زم ٍن أ ًبا عن جد ،أم جاءوا لا تساوي ثمن حملها ،لن يطيق رؤيتها ُتزف في
من بلاد وقرى ،فارقها كل واحد منهم لسبب ما طرقات القرية ،أو أن يستمع للزغاريد وأغنيات
مثلما جاء ،يراهم يتحركون خلف الشرفات والنوافذ البنات عن الفرح والعريس والعروسة وليلة الدخلة.
كأنه يعيش معهم ،تصله أحاديثهم ومشاحناتهم انتهى به المقر :غرفة فوق سطح بناية قديمة تطل
في البعيد على القلعة وجامع محمد علي ومشهد
ومشاجراتهم ،وتأوهاتهم ،يسمع كركرة مياه
الجوزة ،ويشم دخان الشيشة والسجائر المحشوة للقاهرة كلها تعلوها بالنهار سحابة صفراء لا
بالحشيش والمختلطة برائحة أبخرة الطبيخ ،يشاهد تنقشع ،وبالليل تتناثر الأضواء عبر مساحة من
ظلمة لا نهائية ،أتى بقلب متهتك ،يفيض بحزن
مقيم ،مود ًعا قريته البعيدة الراقدة في أقصى
الجنوب ،مثل مقبرة من مقابر أعالي الجبل ،شيع