Page 71 - merit 42 jun 2022
P. 71
69 إبداع ومبدعون
قصــة
النهار مثل قبر ،وعامرة في الليل مثل مسرح كبير. ملابسهم منشورة ما د َّق منها وما خفي ،تحتضنها
هزه اليقين ،هل كانت إحدى ليالي الربيع؟ كان الحبال الممتدة أمام الشرفات ،يتابعها كل ليلة حينما
يعود بعد انتهاء ساعات عمله الشاق ،يحفظ أشكالها
ممس ًكا بكوب شاي صعيدي ،ثقيل ،يرتشف منه
بتلذذ ،ينظر نحو النافذة المواجهة وينتظرُ ،فت َحت ومقاساتها وألوانها ،يتعرف عليها ولمن تنتمي من
سكانها :نساء ،رجا ًل أو أطفا ًل ،صارت هوايته
ضلفتيها عن آخرهما ،وانسابت أمامه من ثنايا
الضوء الخافت ،لم تخفض عينيها عنه ،فكت مشبك الوحيدة التلصص على الغرف والحمامات المضاءة
لعله يلمح ما يود رؤيته ،سيدة بقميص نوم مبتل،
شعرها وألقت به طلي ًقا على كتفها العاري ،اعتلت يلتصق بجسدها في إثارة ،تنشر تحت ستر الليل
منضدة خشبية ،كانت في مواجهته تما ًما ،ترتدي
قميص نوم أبيض بحمالتين ،يشف عن جسد ريان، الملابس المغسولة ت ًّوا ،أو تقوم بتنفيض كليم أو
سجادة ،أو تزيل الأتربة المتراكمة خلف شيش ،أو
كتلة من نار ،ثديان متكوران ،وخصر ضامر،
ح َّزمت وسطها بإيشارب أسود ،وأرخته قلي ًل حول شباك.
لأسفل ،وبدأت في رقصة إغراء ماجنة ،خصتها له ولأول مرة منذ قدومه ،كانت نافذة غرفة السطح
وحده ،كانت تتمايل في دلال وإقبال على نغمات في البناية المواجهة مواربة ،تلمع من خلال فتحتها
الضيقة عينان لفتاة لم يستطع التقاط أي ملامح لها،
موسيقا لم يسمعها من قبل ،فجرت فيها كل لا يدري لحظتها سر استدعائه وجه حبيبته ،تخيل
أشواقها المكبوتة ،وكانت نظراتها المنطلقة نحوه أنها هي ،هربت من أهلها وزوجها المرتقب ،وأتت
فصيحة ،ومغوية ،ترشقه أينما حلت ،تدعوه إليها في وراءه في محاولة للبحث عنه ،تأكد بالفعل كانت
الفتاة تراقبه وتتبعه ،وفجأة دون مقدمات فتحت
الحال.
تفاهما م ًعا بالإشارة ،رسما بالأيدي قلو ًبا وعلامات ضلفتي النافذة لثوان ،كانت تبتسم له وترميه
بنظرة دكت جدران أحزانه ،يتحصن خلفها من أي
تدل على الشوق والحب والهيام وأمنية باللقاء علاقة جديدة ،قد تدفع به للجنون أو الانتحار ،ثوان
العاجل ،أشارت له أن يأتي دون إبطاء ،طمأنته وأغلقتهما ،ظهرت له في قميص نوم عاري الكتفين
أنها بمفردها ولا أحد معها ،نزل مسر ًعا ،تتعالى
دقات قلبه مع كل درجة سلم يهبطها ،تسلل عاب ًرا ومفتوح ،يشع جسدها بوهج سريع الاشتعال،
الشارع الضيق إلى البناية المواجهة ،كان مدخلها انتقل إليه مباشرة رغم ما بينهما من مسافة.
مزدح ًما بالصاعدين من أهل الحارة يحملون على
أكتافهم جرادل وصفائح مملوءة بالماء ،يتصايحون: كانت كل ليلة وفي وقت محدد تضيء نور الغرفة
حريقة ..حريقة .وكأنه جاء للمساعدة ،صعد معهم الخافت ،تترك شيشها مفتو ًحا ليشاهد ظلها يتحرك
كانت غرفة فتاة النافذة تحترق ،تصاعدت منها
ألسنة اللهب عاليًا نحو السماء ،وضع يده على خلف زجاجها المغبش ،وكأنها في رقصة لخلع
صد ٍر يعتمل بخوف حقيقي ،وتساءل في نفسه عن ملابسها بالبطيء ،ترفع يديها لأعلى ثم تنحني
مصيرها وهل ما زالت بالداخل ،كيف لحريق أن لأسفل تمسك بأشياء تعلقها على شماعة خشبية
يندلع في دقائق قليلة تساوي زمن نزوله من غرفته قائمة ،لتظلم الحجرة من جديد وينقطع المشهد
أعلى السطح إلى عرض الشارع؟ ومتى تج َّمع كل من المثير ،يخمن أنها ممددة الآن على السرير ،تنتظره،
حوله؟ رأى جرذا ًنا مشتعلة تتقافز من داخل الغرفة، تزحف نيرانها العابرة ،لتستقر تحت جلده ،تشعل
وشظايا متطايرة في كل اتجاه ،أرسل عينيه وأذنيه كل خلاياه وأعضائه النائمة ،يغمض عينيه على
إلى الداخل لم يلمح أح ًدا ولم يسمع أي صوت وجهها ،وجه حبيبته ،اختلط عليه الأمر ،تقب ُل
لاستغاثة ،سأل أحد الواقفين إلى جواره :حد من نحوه فاتحة ذراعيها ،ترتمي في حضنه ،يتعانقان
السكان جرى له حاجة .صدمه الجواب وهو يشير ويتعاشقان حتى الصباح ،يصحو مرتخيًا ومهدو ًدا،
بإصبعه نحو مكان الحريق :غرفة خزين مقفولة من كل جزء في جسده يؤلمه ،يصلب طوله بالعافية،
يمارس طقوسه ،وقبل أن ينزل يلقى نظرة طويلة
زمان فيها شوية كراكيب. على نافذة الغرفة المغلقة ،وبابها المغلق ،ساكنة في