Page 128 - merit 48
P. 128

‫العـدد ‪48‬‬   ‫‪126‬‬

                                                       ‫ديسمبر ‪٢٠٢2‬‬

 ‫ليا ٍل شتوية (هكذا يحلو لي أن أصنع المشهد) تحت‬            ‫تتكئ الكاتبة كثي ًرا على علبة الشكولاتة كمدخل‬
 ‫البطانية‪ ،‬وفي حضني قطي «ميشو» على الاستديو‬               ‫مهم ودال للرواية‪ ،‬لتتناولها بالوصف والتحليل‬
   ‫الصغير الموضوع في الصالة‪ ،‬حيث كنت أنام (لم‬
                                                             ‫على مدار الصفحات الخمس الأولى‪ ،‬ما يجعل‬
    ‫تكن لي غرفة خاصة في هذه الطفولة البعيدة)»‪.‬‬            ‫القارئ يشعر بوحدة الكاتبة وحجم الفراغ الذي‬
                                        ‫(ص‪)٩‬‬               ‫يملأ حياتها‪ ،‬وربما شيئًا من الضجر الذي ران‬

      ‫ارتباط الوعي بموضوعه‪ ،‬واجترار الذكريات‬                ‫على معظم التفاصيل‪ ،‬غير أن مهارة الكاتبة في‬
       ‫البعيدة ينقلنا مع الكاتبة إلى منطقة مارسيل‬         ‫التعبير‪ ،‬وحرصها على وضع علبة الشكولاتة في‬
‫بروست‪ ،‬حيث تصير أشياء العالم الحاضرة طري ًقا‬           ‫صدارة المشهد الروائي‪ ،‬وفي بؤرة وعي القارئ‪ ،‬من‬
      ‫للبحث عن الزمن الضائع‪ ،‬فنقرأ‪« :‬حاولت أن‬            ‫شأنه أن يمني القارئ بواحدة من تجليات الرواية‬
‫أتذكر من أين أتت‪ ،‬بلا جدوى‪ ،‬لا يهم‪ ،‬فلد َّي ذاكرة‬      ‫الجديدة كما عهدناها عند آلان روب جرييه‪ ،‬خاصة‬
     ‫مثقوبة لم أعد أعبأ بترميمها‪ ،‬المؤكد أنها كانت‬     ‫عندما يطغى الوصف الخالص على السرد‪ ،‬وتتراجع‬
  ‫«هدية»‪ ،‬والمؤكد أنها لم تكن من علب الشوكولاتة‬         ‫كل الحمولات العاطفية المجازية إلى الوراء‪ ،‬لتفسح‬
   ‫تلك‪ ،‬التي كان يحملها الزائرون لأمي في مرضها‬           ‫المكان للحضور المادي الكثيف‪ ،‬فنقرأ‪« :‬على سطح‬
   ‫الأخير‪ ،‬أو ًل‪ ،‬لأنها من النوع الفاخر‪ ،‬وثانيًا‪ ،‬لأن‬      ‫العلبة كتابة بخط جميل‪Cadbury Milk Tray :‬‬
  ‫شكلها يوحي بأنني كنت طفلة حينذاك»‪( .‬ص‪)١٠‬‬               ‫‪ Chocolates‬الكتابة على شريط بنفسجي اللون‪،‬‬
    ‫ويتضح ارتباط أشياء الحاضر بوقائع الماضي‪،‬‬             ‫من نسيج الصفيح نفسه‪ ،‬مائل بطول العلبة‪ ،‬كأنه‬
  ‫في وعي الكاتبة‪ ،‬في أكثر من موضع‪ ،‬فعندما تقرر‬
    ‫أن تشتري صينية جديدة‪ ،‬للطعام‪ ،‬أكبر حج ًما‪،‬‬               ‫الضلع الثالث لمثلث‪ ،‬وتحت الشريط رسومات‬
 ‫تعود بالذاكرة لبيتها القديم وأسرتها المفككة‪ ،‬التي‬        ‫لقطع‪ ،‬ذات أشكال مختلفة‪ ،‬من الشكولاتة‪ ،‬التي‪،‬‬
   ‫غادر أفرادها الحياة‪ ،‬لتعيد المشهد العائلي الفريد‬       ‫من المؤكد‪ ،‬كانت‪ ،‬كلها داخل العلبة يو ًما ما‪ .‬على‬
   ‫ذي الدلالة الخاصة‪ ،‬حيث تجتمع الأسرة لتناول‬              ‫الجانب‪ ،‬وفي أقصى اليمين‪ ،‬مكتوب وزن العلبة‬
   ‫الطعام‪ ،‬دون أن تجتمع‪ ،‬فكل فرد يتناول طعامه‪،‬‬
   ‫فوق صينية خاصة داخل عالمه الخاص‪ ،‬فتقول‪:‬‬                    ‫بالإنجليزية والعربية‪ ٤٥٤ :‬غرا ًما‪ ،‬وإيضاح‬
‫«لم أفعل هذا أب ًدا‪ ،‬ولم نفعل‪ ،‬كذلك‪ ،‬في بيتنا القديم‪،‬‬    ‫«بالإنجليزية فقط» ‪ »”Including Foils‬ابتسمت‪،‬‬
   ‫كأنه «طقس» مقدس‪ ،‬أن يضع أحدنا الطعام على‬             ‫لهذه الدقة الموجهة لمن يقرأ الإنجليزية‪ ،‬ولم تترجم‬
   ‫الصينية‪ ،‬ويمضي وحي ًدا‪ ،‬ومنفر ًدا بها‪« ،‬رمزي»‬       ‫للعربية‪ ..‬قلبت العلبة لأتأمل ظهرها الآخر‪ ،‬كان من‬
 ‫في غرفته يستمع إلى الموسيقى‪ ،‬أو يقرأ كتا ًبا‪ ،‬ماما‬
   ‫بعد عمل اليوم الشاق‪ ،‬تحمل صينيتها‪ ،‬أو تحمل‬                  ‫الصاج الفضي الذي صدأ»‪( .‬صص‪)٩ -٨‬‬
   ‫الصينية لـ»راجي»‪ ،‬المنعزل دائ ًما في غرفته‪ ،‬بابا‬         ‫ولا تكتفي الكاتبة بالسرد المجرد‪ ،‬ولكن تنتقل‪،‬‬
     ‫يحمل صينيته ويجلس في السرير‪ ،‬إلى جواره‬               ‫بنعومة‪ ،‬من جرييه إلى إدموند هوسرل لتقدم لنا‬
   ‫الراديو‪ ،‬يقلب إذاعات العالم‪ ،‬وإلى جواره زجاجة‬       ‫نو ًعا من الفينومينولوجيا التي تؤسس أشياء العالم‬
‫البراندي‪ ،‬غالبًا‪ ،‬يقرأ في رواية بوليسيه بالإنجليزية‪،‬‬        ‫داخل الوعي‪ ،‬وهنا تبدأ ذات الكاتبة في الظهور‬
      ‫بعد أن سمحت له أمي بالشراب داخل البيت‪،‬‬               ‫تمهي ًدا لظهور الشخصيات والأحداث‪ ،‬كما نلمح‬
                                                          ‫ارتباط الذات بالموضوع‪ ،‬ورؤية العالم كما تبدى‬
           ‫«تجنبًا للفضائح»‪ ،‬كما قالت»‪( .‬ص‪)٢٠‬‬            ‫في الوعي ذات مرة في الماضي‪ ،‬فتقول‪« :‬رسومات‬
                                                         ‫الشوكولاتة جميلة‪ ،‬مربعة ومدورة‪ ،‬وكل شكل له‬
    ‫الزهو‪ ..‬وأشياء لا تدعو للفخر!‬                        ‫تصميم مختلف‪ ،‬بعضها «سادة» وبعضها منبعج‬
                                                           ‫قلي ًل‪ ،‬ويمكنني أن أخمن أنها محشوة بالبندق‪،‬‬
      ‫على غرار التحليل الفينومينولوجي لجاستون‬            ‫لونها البني‪ ،‬رغم بهتانه قلي ًل‪ ،‬يوحي بأنها كانت‬
 ‫باشلار‪ ،‬نعثر لدى الكاتبة على مفردة تكررت لعدة‬           ‫شوكولاتة «أصلية»‪ ،‬لا بد أنني شعرت بالحسرة‬
                                                          ‫وأنا أتناول القطعة الأخيرة منها‪ ،‬خصو ًصا أنها‬
                                                       ‫علبة صغيرة نو ًعا ما‪ ،‬ولا بد أنني كنت أنفرد بها في‬
   123   124   125   126   127   128   129   130   131   132   133