Page 130 - merit 48
P. 130

‫العـدد ‪48‬‬   ‫‪128‬‬

                                                         ‫ديسمبر ‪٢٠٢2‬‬

  ‫كبيرة‪ ،‬ولكن مناسبة غير سارة لمعاودة الاتصال‬                  ‫إليها باستهانة‪« :‬مش عارفين يحلو دي؟! قال‬
  ‫بالأسرة التي آثرت الابتعاد‪ ،‬فتقول‪« :‬مرت أربعة‬             ‫مدرسين أوائل قال!»‪ .‬ثم تعود إليهم في الصباح‬

    ‫أشهر على موت «رمزي»‪ ،‬يومي كما هو‪ ،‬أقلعت‬                                       ‫التالي‪ ،‬بالحل»‪( .‬ص‪)١٣‬‬
   ‫عن البكاء تما ًما‪ ،‬ونشرت له عزا ًء «رسميًّا»! على‬      ‫غير أن الكاتبة تأبى إلا أن تجعل من الزهو مسألة‬
‫صفحتي على فيسبوك! لم أذهب‪ ،‬بالقطع‪ ،‬إلى عزائه‪،‬‬
‫استقبلت تعازي الأصدقاء بشيء من الزهو‪ ،‬وربما‬                    ‫أكثر تعقي ًدا عندما تجعله الوجه الآخر لشعور‬
 ‫الانتقام الخفي‪ ،‬من عائلته‪ ،‬التي بإمكانها أن تراها‬         ‫مبطن بالعار‪ ،‬فشعور الكاتبة بالزهو قد ينجم عن‬
                                                         ‫احتفاظها بأسرار لا يعرفها الآخرون‪ .‬ولا يخفى أن‬
                       ‫على صفحتي»‪( .‬ص‪)٢٥٢‬‬                   ‫الاحتفاظ بالأسرار قد يمثل عبئًا على حامل السر‬
     ‫إن ارتباط الزهو بالشكولاتة في بداية الرواية‪،‬‬        ‫وقد ينطوي على لذة خفية من جراء الشعور بامتياز‬
    ‫وبالموت في نهايتها‪ ،‬يلخص رحلة فاطمة قنديل‪،‬‬              ‫ما‪ ،‬فوق الآخرين‪ .‬وفي هذا المعنى تقول‪« :‬لم يكن‬
      ‫الكاتبة الإنسانة‪ ،‬التي عاشت ببراءة من أجل‬             ‫زهو من تتباهى بأبيها‪ ،‬لا‪ ،‬كان زهو تلك الطفلة‪:‬‬
  ‫الآخرين داخل سجن من التقاليد المرعية في أسرة‬            ‫«حاملة السر»‪ ..‬كان سكرا ًنا «طينة»‪ ،‬هاب ًطا يتطوح‬
  ‫مصرية متوسطة‪ ،‬تنقلت كثي ًرا في المكان والزمان‬           ‫من المترو‪ ،‬ينادي عليَّ فع ًل‪ ،‬بصوت ممطوط‪ ،‬لكنني‬
  ‫والأحوال من أجل حياة سعيدة بسيطة لم يتحقق‬                 ‫أسرعت في خطواتي‪ ،‬وتجاهلته تما ًما‪ ،‬لتبقى تلك‬
                                                         ‫اللحظة‪ ،‬عم ًرا بكامله‪ ،‬حتى الآن‪ ،‬لا يمكنني نسيانها‪،‬‬
                                  ‫لها الاستقرار‪.‬‬
   ‫لم تستمر البراءة كثي ًرا‪ ،‬لأن المعاناة بدأت مبك ًرا‪،‬‬      ‫أو تجاهلها‪ ،‬حتى وأنا أصب لنفسي قدح البيرة‬
   ‫والمسؤولية تسللت لتستقر فوق كاهل الصغيرة‬               ‫من جديد‪ ،‬وأحاول أن أتفهم كل دوافعه‪ ،‬حتى وأنا‬
  ‫بعد أن اختار الآخرون أن يكونوا جحي ًما مستع ًرا‬
‫يهدد سذاجتها اللطيفة ويهدم سعادتها المغلفة بطعم‬              ‫أرقب نفسي سكرانه «طينة»‪ ،‬وأفرغ ما بجوفي‪،‬‬
                                                               ‫كأنها اللحظة الأبدية للعار‪ ،‬العار‪ ،‬الذي يقطن‬
                                     ‫الشكولاتة‪.‬‬
   ‫كان الزهو سلاح الكاتبة في مواجهة عالم شرير‪،‬‬              ‫أمعائي من يومها‪ ،‬ولم يكن باستطاعتي‪ ،‬أب ًدا‪ ،‬أن‬
‫لا يرحم‪ ،‬فهو الحضور القوي للشخصية‪ ،‬والمعادل‬                                              ‫أفرغه»‪( .‬ص‪)١٤‬‬

     ‫النفسي لكيان متهالك على وشك الانهيار‪ .‬فقد‬              ‫ويظل للزهو معنى خاص لدى الكاتبة‪ ،‬فكما كان‬
   ‫كان يمنحها الكبرياء‪ ،‬الذي يجعلها تتسامى فوق‬              ‫يمثل الوجه الآخر للعار في حالة الأب الغائب عن‬
‫الإحباطات المتتالية‪ ،‬والأحلام المجهضة‪ ،‬والحماقات‬          ‫الوعي بفعل السكر‪ ،‬فإنه صار يمثل الوجه الجميل‬
   ‫المفخخة التي كانت تدوس عليها‪ ،‬عامدة‪ ،‬بقدميها‬           ‫للعدم في حالة الأم التي رحلت عن الدنيا بعد رحلة‬
 ‫بكل قوة دون أن تخشى الانفجار‪ ،‬وربما رغبة في‬              ‫طويلة من المعاناة مع المرض‪ .‬فالزهو هو الحضور‬
                                                             ‫القوي للحياة في مواجهة الموت‪ ،‬أو‪ ،‬بمعني أدق‪،‬‬
                                      ‫الانفجار!‬
   ‫لم تكن رحلة فاطمة قنديل محبطة للنهاية‪ ،‬لأنها‬               ‫هو القوة التي تمنحنا القدرة على تحمل فاجعة‬
‫كانت تملك القدرة على الصمود‪ ،‬واكتساب المزيد من‬             ‫الموت‪ .‬نلمح ذلك في لحظة إنسانية فريدة ومركبة‬
‫الجلد‪ ،‬والأهم من هذا وذاك‪ ،‬أنها كانت تمتلك رؤية‬           ‫عندما تقف الكاتبة أمام مقبرة العائلة التي ستدفن‬
  ‫للوجود‪ ،‬ولديها فلسفة للحياة‪ ،‬أن تبدأ‪ ،‬كعصفور‬            ‫فيها الأم‪ ،‬وتشعر بالزهو أمام جماليات المكان التي‬
‫النار‪ ،‬من جديد‪ ،‬بعد كل احتراق‪ .‬فالماضي لن يعود‪،‬‬            ‫تحيط بالمقبرة‪ ،‬فنقرأ‪« :‬شعرت بسعادة بالغة حين‬
‫والذين مارسوا حماقاتهم في مواجهتها ذات يوم لن‬            ‫وافقوا‪ ،‬وحين رأيت المقبرة تملكني الزهو‪ ،‬برخامها‬
  ‫يستطيعوا أن يكرروها مرة أخرى‪ ،‬لأنهم رحلوا‪،‬‬              ‫الأنيق‪ ،‬تحيط به الزهور المروية حديثًا‪ ،‬وشواهدها‬

         ‫إما عن الحياة أو عن الوعي‪ ،‬دون رجوع‪.‬‬                              ‫المكتوبة بخط جميل»‪( .‬ص‪)٢١٦‬‬
      ‫والكاتبة هي التي قررت‪ ،‬بكل شجاعة‪ ،‬ودون‬               ‫وأيضا يظل الزهو مرتب ًطا بالعدم عند الكاتبة بعد‬
‫مواربة‪ ،‬ما الذي يستحق أن يستمر معها في حياتها‬            ‫موت الأخ الأكبر‪ ،‬غير أنها تستخدمه كأداة للانتقام‬
  ‫الجديدة‪ ،‬وما الذي سيسقط من الذاكرة إلى الأبد‪،‬‬
                                                             ‫هذه المرة‪ ،‬فالعلاقة لم تكن كما ينبغي مع أسرة‬
                                                              ‫الأخ‪ ،‬وبخاصة الزوجة‪ ،‬وموته لم يمثل فاجعة‬
   125   126   127   128   129   130   131   132   133   134   135