Page 142 - merit 48
P. 142

‫العـدد ‪48‬‬   ‫‪140‬‬

                                                  ‫ديسمبر ‪٢٠٢2‬‬

 ‫الذي طالما سعيت إليه‪ ،‬وكان يجلس على حافة‬             ‫تما ًما وتبوح بكل ما يثقل روحها لعلَّها تبرأ من‬
    ‫مكتبي وأنا أكتب‪ ،‬أزيحه الآن بعنف‪ ،‬لا أريد‬           ‫جراحها دون حيل فنية تضع المسافات بينها‬
   ‫أن يقرأ هذه الأوراق‪ ،‬لا أريد أن يتلصص على‬
    ‫حياتي‪ ،‬لكنني أكذب أي ًضا‪ ،‬لا يمكن أن يكتب‬        ‫وبين شخوص حكايتها‪ ،‬حتى أنها استاءت ج ًّدا‬
      ‫أحد دون أحد‪ ،‬دون أن يشاركه شخص ما‬              ‫من اقتراح زميلها‪« :‬اكتبيها بضمير الغائب!»‪.‬‬
   ‫هذا الضجيج الساري في روحه‪ ،‬أقول لنفسي‬          ‫ظللت طوال اليوم أضحك من النصيحة الأخيرة‪،‬‬
                                                     ‫بضمير الغائب؟! أنا أريد أن «أحضر» كما لو‬
  ‫سيكون انتحا ًرا‪ ،‬وأقول لنفسي؛ ليس انتحا ًرا‪،‬‬
    ‫أنا أريد أن أكشط قشرة جرح‪ ،‬كي يندمل في‬             ‫أنني كنت غائبة دائ ًما‪ ،‬الحضور الكامل هو‬
    ‫الهواء‪ ،‬أو لا يندمل‪ ،‬ويظل ينز د ًما‪ ،‬وأرقبه‪،‬‬      ‫كل ما أحلم به‪ ،‬اليقظة‪ ،‬التي لا تفوت ضو ًءا‬
             ‫وأمسح الدم «بقطنة مبتلة» ص‪.18‬‬         ‫واح ًدا في جوفي إلا حدقت فيه‪ ،‬حدقت فيه حتى‬
    ‫كانت ذاكرتها تلتقط الآلالم وترويها في مشاهد‬   ‫يتلاشى كعيون الميدوزا‪ ،‬لا أريد سوى أن أمسخ‬
                                                    ‫كل الذكريات إلى أصنام‪ ،‬ثم أكسرها‪ ،‬ثم أكنس‬
 ‫ولقطات متوالية ومترابطة حينًا‪ ،‬ولقطات لا يجمع‬      ‫التراب المتبقي منها‪ ،‬حتى ولو كنت أنا نفسي‪،‬‬
‫بينها إلا الألم أحيا ًنا أخرى‪ ،‬وما بين بوح‬
                                                              ‫صن ًما من بين تلك الأصنام» ص‪.19‬‬
    ‫واسترجاعات واستباقات مركبة‬                             ‫كانت رغبتها في الخلاص تفوق أي شيء‬
     ‫للأحداث؛ إذ تقفز الذاكرة من‬                          ‫حتى رعبها من التكشف بكل هذا الوضوح‬
 ‫مكان إلى آخر في حضور الروابط‬                               ‫أمام القراء‪« :‬فكرة وجود «قارئ» لهذه‬
  ‫أحيا ًنا‪ ،‬وفي غيابها أحيا ًنا أخرى‪،‬‬                     ‫الأوراق ترعبني‪ ..‬أكثر من الرعب‪ ،‬كأنه‬
 ‫تبدو الكاتبة وقد استسلمت تما ًما‬                            ‫العجز الكامل عن أن أواصل‪ ،‬القارئ‪،‬‬
   ‫لذاكرتها‪ ،‬خاصة حين تندفع في‬
     ‫الحكي غير مركزة على محور‬
     ‫أساسي أو حدث رئيسي‪ ،‬لولا‬
     ‫مرض أمها الذي استغرق‬
  ‫مساحة كبيرة إلى حد ما من‬
 ‫السرد‪ .‬فيما عدا ذلك تكاثرت‬
‫الحوادث والسنون تحمل بين‬
 ‫طياتها لحظات سعادة عزيزة‬
‫تهدى إليها مع قطع الشكولاتة‬
    ‫وأكياس اللب والسوداني‬
    ‫وعصير القصب وركوب‬
‫الدراجة‪ ،‬وفيما عدا ذلك نضح‬
    ‫السرد بالألم والانكسارات‬

                   ‫والفواجع‪.‬‬
  ‫رافق الألم الكاتبة منذ كانت‬
  ‫جنينًا في رحم أمها؛ إذ كانت‬
‫شاهدة على احتضار جدتها بعد‬
  ‫أن أوصت أمها بألا تجهضها‪:‬‬

    ‫«لاحظت جدتي حمل أمي‪،‬‬
   ‫وسألتها‪ ،‬فأجابت أمي أنها‬
   ‫تعد للإجهاض «كالمعتاد»‪،‬‬
   137   138   139   140   141   142   143   144   145   146   147