Page 144 - merit 48
P. 144
العـدد 48 142
ديسمبر ٢٠٢2
الشوكي ،كي يقشرها! أولئك الوحيدون العراة، في السنة الأولى في الجامعة ،كنت أشعر أنني
الذين اختاروا ،أول مرة ،أن يكونوا مشاجب، مررت بخبرات كثيرة ،وأشعر أنهم أطفال
ولم يكن بإمكانهم أب ًدا بعدها أن يختاروا تلك
الملابس التي علقت فوقهم» ص.118 ،117 بالنسبة لي؛ من منهم ،على الأقل ،خاض تجربة
حاولت فاطمة إذن أن تتنصل من دور الضحية الغربة كما خضتها؟! من منهم نام في محطة
باحثة عن النشوة ،وإن كانت تعود إلى دورها القطار ذات ليلة بملابس رخيصة و»تجمد»
ومنطقتها الآمنة أحيا ًنا إذا استدعى الأمر .ولكن
القدر حرمها هذه المراوحة المستسلمة بين دورين من البرد؟! من منهم كسر إقامته ،وتركه أخوه
بائسين؛ فحين مرضت أمها خبرت الألم والمعاناة أمام محطة القطار في الطريق إلى المطار ،موص ًيا
الحقيقيين اللذين دفعاها لتحمل مسؤولية عظيمة إياه« :اوعي تقولي لحد كنت فين طول المدة دي،
هي مسؤولية رعاية أمها المريضة التي قطعت
على نفسها عه ًدا قاسيًا أمام الله على أنا مش عاوز مشاكل»؟ من منهم لف المطارات
إثر مرضها« :حين عرفت بمرضها، «ترانزيت» بتذكرة دبرتها له أمه «بالعافية»
صليت ،وعاهدت الله ،باكية ،ألا أمس
قطرة واحدة من الخمر ،رجوته ألا تتعذب، وتعرض للمساءلة المهينة من البوليس في
وتوسلت إليه ،مقابل أن أفي بعهدي ،طلبت المطار ،بسبب إقامته غير المشروعة؟! ونفذ
منه أن يعاقبني فيها إذا فعلت ،ومرغت «بأعجوبة»؟ كانوا صغا ًرا خارجين للتو من
رأسي على سجادة الصلاة ،وحين تنفست الثانوية ،يعتبرون الجامعة تجربة جديدة!
بعمق ،أدركت أن «العهد» تم قبوله» ص.183
لم تجعلها المعاناة الحقيقية تنقطع عن الجامعة ص.110
كما حدث في المرتين السابقتين ،بل جعلتها تدرك صحيح أنها مرت بتجارب مريرة ،ولكنها منذ
ارتضت دور الضحية ،ولم تحاول النجاة ،أسلمت
قيمة النجاح الذي أرجأت أمها بداية رحلة علاجها نفسها تما ًما للفواجع متذرعة بكل أسباب التعاسة
حر ًصا عليه ،فحصلت على الليسانس بتفوق ،ولم والفشل ،كما فعل أخواها من قبل .وبعد الإخفاقات
يثنها تعنت أساتذتها ضدها وحرمانها من التعيين المتوالية في الدراسة والعمل والزواج تشبعت تما ًما
في الجامعة عن مواصلة دراساتها العليا؛ فكانت من هذا الدور ،فبحثت عن دور آخر ،وفتشت عن
ترعى أمها المريضة بعناية فائقة وتدرس وتكتب إرث مختلف يبعدها إلى حد ما عن خانة الضحية،
الشعر ويزداد اسمها برو ًزا بين قائلي الشعر وإن أبقاها تحت وطأة الألم.
ومتلقيه .أخذت تعبر طريقها من الإخفاق والفشل «لماذا لا أقبل إر ًثا آخر ،بالرحابة والمحبة نفسها،
إلى النجاح والتحقق ،رغم تفاقم الآلام؛ آلام المرض،
إرث هؤلاء الذين أضاعوا كل شيء ،إرث المتعة
وأوجاع الخذلان والتخلي ،و ِع َظم المسؤولية. الخالصة ،النشوة ،تقبل أن تكون «مدا ًنا»
كان هذا هو ألمها العبقري الذي نحت شخصيتها،
وحقق وجودها رغم مرارته؛ فقد مرت فاطمة مع و»موصو ًما» من الجميع ،وأن يكونوا جميعهم
أمها بأوقات عسيرة وآلام ضارية ،ولكنها كانت ضحاياك؟! لا ..بل أكثر أن تظل في ذاكرتهم
دائ ًما ،كما ظل أبي ،وكما ظل جداي في ذاكرة
تتوجس دائ ًما من الألم الأكبر« :الألم الرهيب،
الذي سمعنا عنه ،والذي عاشته مع أمها كان أمي وأبي ،تبرر بما فعلوه معك كل ذلك الظلام
يرعبنا ،حتى هذه اللحظة لم تخ ُبره ،حاولنا الذي يطفح في أعماقك ،كل قصص حبك الفاشلة،
نسيانه ،لكنني ما إن أضع رأسي على وسادتي
كل مهانتك ،وأنت تستدين فيتعالى عليك من لا
كل ليلة وأطفئ النور ،لا أستطيع أن أنام، يشبهونهم ،ولا يشبهونك! حتى بعد أن يموتوا،
أشعل النور من جديد ،وأشعل سجائري واحدة
يظلون «كمعركة» ،قائمة بينك وبين العالم،
معركة تمنحك الحياة ،أو تمنحك الرغبة،
والقوة ،في الاستمرار فيها ،كي تكون واح ًدا من
اثنين :منتص ًرا أو مهزو ًما ،ضحية أو جلا ًدا،
ليس هناك فرق ،لقد منحوك الحياة وأنت
أخذتها منهم ،بسذاجة من يقضم حبة من التين