Page 146 - merit 48
P. 146

‫العـدد ‪48‬‬   ‫‪144‬‬

                                                       ‫ديسمبر ‪٢٠٢2‬‬

    ‫منه‪ ،‬نقبت في ذاكرتها بدأب عن اللحظات المؤلمة‬         ‫الأهل والأصدقاء‪ ،‬وفي مقدمتهم جمي ًعا صديقتها‬
    ‫مذ كانت جنينًا في رحم أمها‪ ،‬وإن تذكرت قلي ًل‬        ‫رئيفة التي لم تستطرد في الحديث عنها في الرواية‬
   ‫من لحظات السعادة والتدليل من أبيها وأخويها‬            ‫إلا فيما يخص مساندتها لها في مرض أمها‪ ،‬رغم‬
   ‫اللذين تفرقت بهما السبل وتبدلت أحوالهما‪ ،‬ولم‬
 ‫تعد تشكل فار ًقا بالنسبة لهما إلا بما تحمله عنهما‬         ‫علاقة الصداقة الممتدة بينهما لنحو ما يزيد على‬
   ‫من مسؤولية رعاية أمهم التي لم َت ُن ْء بها يو ًما‪.‬‬      ‫أربعين عا ًما‪« :‬أنا لم أكتب كثي ًرا عن «رئيفة»‬
‫كانت أمها مريضة ومكلومة‪ ،‬ظل قلبها معل ًقا بابنها‬        ‫هنا‪ ،‬رغم أننا عشنا م ًعا أكثر من أربعين عا ًما‪،‬‬
 ‫الغائب الذي ظل غيابه يؤرقها حتى آخر لحظة في‬               ‫أوقن أنها ليست غاضبة من هذا (هي ليست‬
‫حياتها‪ .‬ورغم نقمة فاطمة عليه وغضبها منه أرادت‬              ‫من ذلك النوع الذي يخفي غضبه) تقول لي‪،‬‬
   ‫بشدة أن تسمع منه بعد عودته ‪-‬بعد وفاة أمه‪-‬‬              ‫ضاحكة‪« :‬بصراحة أنا ما بافهمش حاجة من‬
  ‫ما يغفر له غيابه الطويل‪« :‬كنت أريد رواية‪ ،‬أية‬
 ‫رواية‪ ،‬تمكنني من أن أفسر بها اختفاءه‪ ،‬لأكثر‬                 ‫اللي بتكتبيه‪ ،‬بس بأحسه»‪ .‬لكنني لا أثقل‬
    ‫من اثنين وثلاثين عا ًما‪ ،‬دون إقامة شرعية‪،‬‬             ‫عليها بالشعر‪ ،‬وأتذكر أمي حين كانت تشكو‬
    ‫لتصدع قلب أمي عليه‪ ،‬طوال تلك السنوات‪،‬‬                 ‫مثلها من عدم فهمها لما أكتب‪ ،‬أقول لنفسي إن‬
‫تقطر بؤسها‪ ،‬منذ شاي الصباح‪ ،‬وحتى يداهمها‬                  ‫«رئيفة» تحتاج مني كتا ًبا بأكمله‪ ،‬وغال ًبا لن‬
  ‫الليل‪ ،‬كنت أريد رواية‪ ،‬تغاير الرواية القديمة‬         ‫أكتبه‪ ،‬ولا أستطيع أن أقول لها إن كل من كتبت‬
                                                        ‫عن حياتهم معي في هذا الكتاب قد ماتوا! ماتوا‬
       ‫التي أحفظها عن ظهر قلب‪ ،‬وأعرف مكان‬                 ‫فيزيق ًّيا‪ ،‬أو ماتوا بالفعل في قلبي! كيف يمكن‬
    ‫«ندوبها» في قلبي‪ ،‬أتحسسها‪ ،‬كطين ناشف‪،‬‬               ‫أن توضح هذه الحقائق البسيطة لمن يعيش في‬
‫متخثر‪ ،‬دائ ًما هناك‪ ،‬وفي متناول يدي‪« :‬خرج في‬             ‫قلبك؟! كيف يمكن أن تفهمه أنك تكتب عن هذا‬
  ‫الصباح‪ ،‬ذهب إلى المقهى‪ ،‬لم يذهب إلى امتحان‬               ‫الجذر البعيد لتطيره أورا ًقا في الهواء‪ ،‬كي لا‬
   ‫الثانوية‪ ،‬ورسب» هكذا‪ ،‬بهذه البساطة‪ .‬كنت‬              ‫يظل يخادعك بأنه شجرة! تكتب عن هذا الجذر‬
     ‫أبحث عن رواية صنعتها السنون الصعبة‬                 ‫«المعطوب»‪ ،‬فقط لتتخلص من «عفنه»‪ ،‬حتى لا‬
‫الطويلة وحبكتها‪ ،‬حبكة أكثر تعقي ًدا‪ ،‬حتى ولو‬             ‫يصير إلى نهاية حياتك ممتز ًجا بأنفاسك حتى‬
‫«كانت سج ًنا وقضبا ًنا»‪ ،‬ستكون أقل ابتذا ًل من‬          ‫لا تعتاد رائحته‪ ،‬ورائحة حياتك! كيف يمكنني‬
   ‫تلك الرواية القديمة المهترئة» ص‪.244 ،243‬‬              ‫أن أُ ْفهم «رئيفة» التي تعشق عائلتها‪ ،‬حقيقتي‬
    ‫كتبت فاطمة قنديل هذا الكتاب بعد سنوات من‬               ‫البسيطة هذه‪ ،‬شديدة الوضوح بالنسبة لي‪،‬‬
     ‫انتقالها إلى بيتها الجديد الذي لم تخبر أخويها‬       ‫عارية تما ًما أمام عيني؟! كيف أفهمها ما علمه‬
    ‫بمكانه بعد كل ما لاقته منهم من خذلان‪ ،‬كتبت‬             ‫لي الشعر‪« :‬أن الكتابة هي الموت»‪ ،‬وأنني لا‬
‫بدافع الخلاص من الألم والتحرر من كل ما يربطها‬           ‫أريد أن أكتب عنها‪ ،‬لأنني أرتعب من أن تموت»‬
‫بمواطن المعاناة‪ ،‬كتبت لأنها اعتقدت «أن الكتابة هي‬
                                                                                       ‫ص‪.228 ،227‬‬
                                         ‫الموت»‬          ‫كانت علاقتها الرائعة بصديقتها قلي ًل من كثير لم‬
                                                        ‫تكتبه فاطمة قنديل؛ إذ تتكشف دلالات تلك العبارة‬
                               ‫المصدر‪:‬‬                  ‫التي ألحقتها بعنوان كتابها «أقفاص فارغة‪ ..‬ما لم‬
                                                          ‫تكتبه فاطمة قنديل»؛ فلم تكتب فاطمة قنديل عن‬
   ‫فاطمة قنديل‪ ،‬أقفاص فارغة‪ ..‬ما لم تكتبه فاطمة‬         ‫الحب أو الشغف أو الصداقة‪ ،‬لم تكتب عن الإنجاز‬
                      ‫قنديل‪ ،‬الكتب خان‪.2021 ،‬‬           ‫أو التحقق‪ ،‬لم تعرج في حديثها عن تلك الأيام التي‬

                                                            ‫خبرت فيها الحب وإن فشلت التجربة‪ ،‬أو التي‬
                                                         ‫شاركت فيها صديقاتها لحظات سعادة صافية لا‬
                                                        ‫يشوبها مرارة أو قسوة‪ .‬لم تكتب فاطمة قنديل إلا‬
                                                       ‫لتمدح الألم وتقدسه‪ ،‬وإن ظنت أنها أرادت الخلاص‬
   141   142   143   144   145   146   147   148   149   150   151