Page 39 - merit 39 feb 2022
P. 39
"تسمعه الفينة بعد الفينة في جنح فيرد عليه العقاد التحية بتحية مماثلة،
ويكتب في «الرسالة» مقا ًل نقد ًّيا حول
الليل الساكن النائم البعيد القرار، الرواية في 26يناير ،1942ض َّمنه كتابه
فيشبه لك الزاهد المتهجد الذي يرفع
«ردود وحدود» ،وينتهز هذه الفرصة
صوته بالتسبيح والابتهال فترة بعد ليقول في جزء منه« :يا دعاء الكروان!
موعدنا معك الفضاء الرحيب كلما أوغلت
فترة ،ويسبه لك الحارس الساهر الذي
بنا الذكرى في أغوار ينقطع ما بينها وبين
يتعهد الليل بالرعاية بين لحظة ولحظة، الفضاء الرحيب .ومن دعائك أنك جذبتنا
وينطلق بالغناء في مفاجاة منتظرة أو خم ًسا وعشرين سنة أو جذبت إلينا تلك
السنين الخمس والعشرين ،وأنك أوحيت
انتظار مفاجئ فلا تدري أهي صيحة جذل إلى طه ما يوحى ،فإذا به يفتح لنا فضاء
الليل وما فيه من أصداء وأشباح ،ويفتح
أم هي صيحة روعة وإجفال"..
لنا فضاء النفس الإنسانية وما فيها من
(العقاد عن الكروان) أصداء وأشباح ،وإذا به يلقي إلينا بعاصم
في الفضاءين من ذلك الحبل السريع
الخاطف ،ففيه لياذ بالنجاة».
ثم يقول« :وإني لأحسب وأنا أتقبل الهدية
نذرت نفسها للقصاص لها ممن أغواها ،ود َّن َس شاك ًرا أن «الكروان» سيأوي إلى العش الذي سماه
شرف أسرتها ،فتسبَّ َب في قتلها ،فيقول« :إن صديقنا متواض ًعا لأنه يرتضي العش وإن أغريناه
صوتك إذن لأشبه الأشياء بأن يكون صو ًتا لروح بالدواوين ،وحسبنا منه أن يدعونا وندعوه ،وإننا
من هذه الأرواح ليذ ِّكرني روح هذه الأخت التي
وإياه نلبي الدعاء»( .العقاد :ردود وحدود ،ص)40
شهد َت مصرعها معي في تلك الليلة المهيبة الرهيبة، وكما صنع العقاد للكروان في الشعر ديوا ًنا فقد
وفي ذلك الفضاء العريض الذي لم يكن من سبيل ك َّرم طه حسين هذا الطائر المصرى ،وصنع له
أي ًضا في ميدان الرواية واحة فيحاء في صحراء
إلى أن ُيس َمع الصو ُت فيه مهما يرتفع ،ولا أن يجيب مترامية الأطراف ،وجعله يغرد مع أول خيوط
المغيث فيه لمن استغاث.
الفجر دعاءه الشهير ،بصوته العذب الشجي
فالجو العام للرواية -كما أشار صلاح عبد الرخيم؛ ل ُيذ ِّك َر بطلة روايته «دعاء الكروان» «آمنة»،
الصبور -الذي صنعه طه حسين ليعالج فيه، بعهدها ووعدها الذي جعلت تردده كلما سمعت
دعاء الكروان ،حيث جعلها العميد تقول« :لبيك لبيك بشكل أساسى ،قضيتين هما :التنفير من جرائم
القتل التي ترتكب باسم صيانة العرض ،وأما الثاني
أيها الطائر العزيز! ما زلت ساهرة أرقب مقدمك
فيتمثل في تمجيد عاطفة الحب تلك التي اكتسبها
وأنتظر نداءك؛ وما كان ينبغي لي أن أنام حتى
أحس قربك ،وأسمع صوتك ،واستجيب لدعائك .ألم العميد من ثقافته الفرنسية.
ثم يعاود التلبية على لسان آمنة« :لبيك لبيك أيها
الطائر العزيز! اد ُن مني إن كان من أخلاقك الدنو، أتع َّود هذا منذ أكثر من عشرين عا ًما؟!
لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! ما أح ّب صوتك إلى
وأ َن ْس إل َّي إن كان من خصالك الأنس إلى الناس، نفسي إذا جثم الليل ،وهدأ الكون ،ونامت الحياة،
واسمع مني وتحدث إل َّي ،وهلم نذكر تلك المأساة وانطلقت الأرواح في هذا السكون المظلم ،آمنة لا
التي شهدناها م ًعا ،وعجزنا عن أن ندفعها م ًعا، تخاف ،صامتة لا تسمع!».
نصرف ش َّرها عن تلك النفس الزكية التي ازهقت، ثم يربط بين صوت الكروان في هدأة الليل وهتاف
وعن هذا الدم البريء الذي س ِفك .فلم نزد حينئذ روح أختها «هنادي» وكأنها تخاط ُبها ..أخ ُتها التي