Page 40 - merit 39 feb 2022
P. 40

‫العـدد ‪38‬‬   ‫‪38‬‬

                                                        ‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫بحيث لا يجور واحد منهما على الآخر‪ .‬وعلى هذا‪،‬‬                ‫على أن بعثنا صيحات تر َّددت في ذلك الفضاء‬
 ‫فحينما انتقل العقاد من الشعر إلى النثر‪ ،‬ليحدثنا‬           ‫العريض لكنها لم تبلغ أذ ًنا ولم تصل إلى قلب‪،‬‬
                                                             ‫وإنما صعدت إلى السماء على حين هوى ذلك‬
    ‫عن طائره الأثير الكروان‪ ،‬فقد اقترب أسلوبه‬             ‫الجسم الجميل الممزق في تلك الحفرة التي أ ِع َّدت‬
    ‫كثي ًرا من الشعر‪ ،‬ولك أن تقول باطمئنان‪ :‬إنه‬          ‫له إعدا ًدا‪ ،‬ثم ِهيل التراب‪ ،‬وسويت الأرض‪ ،‬وأنت‬
                                                        ‫تدعو ولا من مجيب‪ ،‬وأنا أستغيث ولا من مغيث‪،‬‬
                  ‫أشبه ما يكون بالشعر المنثور‪.‬‬          ‫وامرأة متقدمة في السن قد أنتحت ناحية وجلست‬
  ‫أما أسلوب العميد فقد قلنا عنه في موضع آخر‪:‬‬             ‫تذرف دموعها في صمت عميق‪ ،‬ورجل متقدم في‬
   ‫«ليس من شك في أن اللغة العربية ‪-‬سواء تلك‬                ‫السن قد قام غير بعيد يسوي الأرض‪ ،‬ويصب‬
‫التي تخرج من فم الدكتور طه حسين أو يسجلها‬                   ‫عليها الماء‪ ،‬ويردها كما كانت‪ ،‬ثم ينتحي قلي ًل‬
‫عنه سن قلمه‪ -‬ذات مذاق خاص‪ ،‬فللرجل أسلوبه‬                   ‫ويزيل عن جسمه وثيابه آثار الدم والتراب‪ ،‬ثم‬
 ‫الذي يخالف به غيره‪ ،‬ونعرفه ونميزه عن سواه‬              ‫يرتفع صوته آم ًرا أن هل َّم فقد آن لنا أن نرتحل»‪.‬‬
                                                          ‫ثم يذكرنا بعهدها ذاك لأختها فيقول‪« :‬منذ ذلك‬
      ‫من أصحاب الأساليب‪ ،‬فهو صاحب جرس‬                      ‫الوقت تم العهد بينك وبيني أيها الطائر العزيز‬
 ‫خاص ذي وقع وتأثير على الأذن السامعة‪ ،‬ليس‬               ‫على أن نذكر هذه المأساة كلما انتصف الليل حتى‬
 ‫بوسعنا مقارنته بما نسمعه من غيره‪ ،‬كما أن له‬                ‫نثأر لهذه الفتاة التي غودرت في هذا الفضاء‪،‬‬
                                                           ‫ثم نذكر هذه المأساة كلما انتصف الليل بعد أن‬
    ‫في كتابته أو أحاديثه طابعه أو مذاقه الخاص‪،‬‬              ‫نظفر بالثأر‪ ،‬ليكون في ذكرنا إياها وفاء لهذه‬
‫الذي لا يختلط بغيره ممن نقرأ أو نستمع لهم من‬            ‫النفس التي أزهقت‪ ،‬ولهذا الدم الذي سفك‪ ،‬ورضا‬
                                                          ‫عن الانتقام وقد أل َّم بالآثم المجرم ور َّد الأمر إلى‬
   ‫كثير من الأدباء والخطباء والمتحدثين‪ ،‬فأنت لا‬             ‫نصابه‪ ،‬وأراح هذه النفس التي ما زالت تطلب‬
  ‫تملك إزاء قراءته أو الاستماع لحديثه إلا أن تقر‬          ‫الري حتى تظفر بالثأر من الذين اعتدوا عليها»‪.‬‬

   ‫بأن هذا المبدع العظيم قد امتلك أسرار العربية‬                                        ‫(الرواية‪ :‬ص‪)11‬‬
                               ‫وكنوزها الخفية!‬                  ‫وقد تعمدت أن أستشهد بجزء من مقدمة‬
                                                          ‫ديوان الأستاذ العقاد (نث ًرا)؛ لنقارنه بجزء آخر‬
     ‫ومن ناحية أخرى فإن إعادته لبعض عباراته‬                  ‫استشهدنا به من رواية العميد؛ ليرى المقارن‬
      ‫ومعانيه بصيغة بيانية أخرى تزيدنا إعجا ًبا‬            ‫المتأمل أن نثر الأستاذ لم يقل في روعته وفنِّ َيتِه‬
 ‫باسلوبه المميز‪ ،‬كما نستمع ونستمتع بترجيعات‬             ‫وجمالِه عن نثر العميد‪ ،‬وليعي َد النظ َر كل من يظن‬
     ‫صوت الكروان‪ ،‬يطلقها ويكررها عشرات أو‬               ‫خطأ أو َغفل ًة أن أسلوب الأستاذ يمتاز بالصعوبة‬
‫مئات المرات‪ ،‬دون أن نمل من تكرارها وسماعها‪،‬‬               ‫أو التعقيد‪ ،‬أو على الأقل هو أسلوب جا ّف‪ ،‬يخلو‬
                                                        ‫من الجمال والرواء! و ْل ُي ِعد القراءة مرة أخرى من‬
        ‫بل إننا نحن الذين نحس بتنوعاتها حينما‬                ‫يريد أن يتحقق مما أقول‪ ،‬فلعله للحق يعود!‬
  ‫نقرنها بحالتنا النفسية‪ ،‬ونخلع عليها انبطاعاتنا‬            ‫وعلى الرغم من أن العقاد كان يفضل الإيجاز‬
 ‫الوجدانية‪ ،‬فنشعر بها جديدة طازجة في كل مرة‬             ‫ويؤثر المعاني فيما يكتب‪ ،‬فإنه كان صاحب جملة‬
                                                        ‫تتميز بالبيان والبلاغة التي تهتم أو ًل ببيان المعنى‬
                              ‫نستمع فيها إليها‪.‬‬         ‫وبلوغ الهدف من الكتابة‪ ،‬ومع هذا فلم تكن تخلو‬
‫وخلاصة القول‪ :‬فقد أحب الرائدان طائر الكروان‪،‬‬               ‫جملته من روعة وجزالة وجمال‪ .‬ولا عجب في‬
                                                            ‫هذا‪ ،‬فهو أو ًل وآخ ًرا شاعر‪ ،‬والشاعر صاحب‬
    ‫وتعلقا به‪ ،‬وناجياه‪ ..‬ك ٌّل بطريقته‪ ،‬وبما أوحى‬             ‫أسلوب يلتقي ويتوازن فيه المعنى مع المبنى‬
  ‫به إليهما من نفحات الفن‪ ،‬وما حرك لديهما من‬

     ‫أشكال الخيال‪ ..‬لقد استلهماه بعض أبداعهما‬
‫فلباهما شع ًرا رائ ًعا‪ ،‬وق ًّصا جمي ًل‪ ،‬والمهم قبل هذا‬

   ‫وبعده أنه جمعهما م ًعا في طريق الفن والإبداع‬
      ‫والتعبير الجميل‪ ،‬والتواصل الأدبي الراقى‪،‬‬

  ‫والنشاط النقدي الموضوعى‪ ،‬فس َّجل لهما تاريخ‬
‫الأدب كل هذا في سجله الخالد‪ ،‬الذي لا يمحى ولا‬

      ‫يزول‪ ،‬مهما تطاولت عليه السنون والعهود‬
   35   36   37   38   39   40   41   42   43   44   45