Page 260 - merit 40 apr 2022
P. 260

‫العـدد ‪40‬‬                              ‫‪258‬‬

                                  ‫أبريل ‪٢٠٢2‬‬

 ‫ممكنة الحدوث‪ ،‬حتي لو لم تكن‬         ‫والمستقبل‪ .‬وهذه الصورة عند‬          ‫رواية الحرام ‪ ،1959‬التي تصنف‬
   ‫مألوفة‪ ،‬وسوف تشعر عزيزة‬        ‫يوسف إدريس مهمة ج ًّدا للقارئ‬          ‫على رأس قائمة أفضل مائة رواية‬
                                   ‫الأجنبي‪ ،‬فهي تشد انتباهه بقوة‬
‫بعد أن تخلصت من علامة الجرم‬        ‫لكي يدرك العمق الحقيقي لحياة‬             ‫عربية‪ ،‬وقد تحولت إلى واحدة‬
‫وجليله الكبير المنتفخ‪ ،‬من الجنين‬                                             ‫من أجمل وأرقي كلاسيكيات‬
                                                  ‫الشعب المصري‪.‬‬            ‫السينما‪ ،‬ولعبت بطولتها الفنانة‬
     ‫الذي حملت به سفا ًحا‪ ،‬بأن‬       ‫في دلتا مصر يشكل الفلاحون‬               ‫القديرة فاتن حمامة‪ ،‬وأخرج‬
  ‫الصباح جميل‪ ،‬وبأن كل شيء‬           ‫المصريون أغلبية ساحقة‪ ،‬وهم‬             ‫الفيلم بركات عام ‪ ،1965‬ومن‬
   ‫سوف يسير كما أرادت تما ًما‬        ‫يعتقدون بالقرآن الكريم كتا ًبا‬        ‫خلالها نستطيع أن نفهم أخلاق‬
                                     ‫فيه حل لكل المشاكل الصغيرة‬          ‫الفلاحين في مصر‪ ،‬أعني ما يميز‬
                ‫وكأن الله معها‪.‬‬   ‫والكبيرة‪ ،‬ولذلك فهم لا يحتاجون‬            ‫الفرد الذي يعيش على ضفاف‬
 ‫ويذكر عمرو العادلي أن يوسف‬          ‫إلى كتب أخرى‪ .‬ويلعب مفهوم‬
                                     ‫الحلال والحرام دو ًرا أساسيًّا‬            ‫النيل في مصر‪ .‬والرواية لا‬
     ‫إدريس من قلائل جمعوا في‬       ‫في الحكم على سلوك الناس‪ ،‬هذا‬           ‫ينحصر عالمها في رصد السلوك‬
  ‫كتاباتهم بين الريف والحضر‪،‬‬        ‫المفهوم يأخذ شك ًل كليًّا مجر ًدا‪.‬‬
                                     ‫ولكن يوسف إدريس يبتعد في‬                   ‫الاخلاقي ولكنها في العمق‬
     ‫أو القرية والمدينة‪ ،‬فقد كان‬     ‫كتاباته عن المجرد وينغمس في‬           ‫تتصدى لتصوير ما يتوقعه من‬
 ‫يكتب عما يعرفه‪ ،‬فعندما كان في‬    ‫حرارة اليومي المحسوس المعيش‪،‬‬
                                                                             ‫الفلاحين في صناعة مستقبل‬
  ‫الريف كتب عن الريف وعندما‬            ‫ولذلك يتابع مصائر الأفراد‬                  ‫مصر‪ .‬من عماد مصر؟‬
 ‫ذهب إلى المدينة كتب عن المدينة‪،‬‬  ‫واح ًدا واح ًدا؛ ليقدم لنا الحياة كما‬
  ‫وذلك رغم التباين بين طريقتي‬                                              ‫ومن خلال إنتاجه فهمت أنه لا‬
‫الكتابة وطبيعة المجتمع في نمطين‬      ‫تجري في الواقع بكل حراراتها‬             ‫يعتبر المثقفين أو رجال الدين‬
                                       ‫وواقعيتها‪ ،‬ولذلك نجد عنده‬             ‫وسكان المدن ضما ًنا لمستقبل‬
   ‫مختلفين من المعيشة والرؤية‪.‬‬                                           ‫مصر‪ .‬فالفلاحون بالنسبة له هم‬
         ‫فالريف والمدينة كلمتان‬    ‫أحكا ًما اخلاقية مبنية على أساس‬         ‫الذين سيبنون مصر المستقبل‪،‬‬
                                    ‫عملي تحدده شروطه‪ ،‬ومن هنا‬
  ‫متقابلتان‪ ،‬بينهما تضاد‪ ،‬وهوة‬      ‫نكتشف عنده تبري ًرا أو عذ ًرا أو‬          ‫وأقدر أن البحث عن ضمان‬
 ‫واسعة‪ ،‬لا يسهل العبور فوقها‪،‬‬        ‫غفرا ًنا لافراد مارسوا الحرام‪.‬‬      ‫المستقبل لمصر كان محور حياته‪،‬‬
‫لأنها ترتكز على ميراث طويل من‬      ‫ففي سياق ما‪ ،‬موصول بموازاة‬
‫العزلة‪ ،‬والاستعداء‪ ،‬والاستعلاء‪،‬‬          ‫الراوي للشخصية مرتكبة‬               ‫ولذلك جابه السلطة منذ كان‬
                                                          ‫الحرام‪،‬‬        ‫طالبًا بالجامعة‪ .‬ويوسف إدريس‬
    ‫فهذه الهوة العميقة الواسعة‬                          ‫«عزيزة»‪،‬‬
 ‫واضحة في وطننا العربى (وهو‬                                ‫سوف‬               ‫وصل إلى الفلاحين عبر بحث‬
                                                      ‫يعاد النظر‪،‬‬           ‫طويل‪ ،‬ومن هنا جاءت صورة‬
    ‫الذي ُنعني به هنا) أكثر مما‬                        ‫ضمنيًّا‪ ،‬في‬
                                                         ‫مدى إثم‬               ‫الفلاحين كما قدمها الكاتب‬
                                                       ‫الفعل الذي‬            ‫تعبي ًرا عن المسائل الجوهرية‬
                                                         ‫اضطرت‬             ‫المطلوبة لتكوين مستقبل مصر‪.‬‬
                                                        ‫لإرتكابه‪،‬‬         ‫فعندما ترجمت رواية «الأرض»‬
                                                      ‫سوف يلوح‬             ‫لعبد الرحمن الشرقاوي كونت‬
                                                       ‫سلو ًكا من‬         ‫صورة أولية عن حياة الفلاحين‬
                                                        ‫سلوكيات‬          ‫في الريف‪ ،‬وتلك الرواية ساعدتني‬
                                                                         ‫على الدخول إلى المعاني العميقة في‬
                                                                           ‫أدب يوسف إدريس‪ .‬إن صورة‬
                                                                             ‫الفلاحين عند يوسف إدريس‬
                                                                              ‫مرتبطة دائ ًما بمصير مصر‬
                                                                           ‫وبما تواجهه مصر في الحاضر‬
   255   256   257   258   259   260   261   262   263   264   265