Page 101 - ميريت الثقافية العدد 30- يونيو 2021
P. 101

‫‪99‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

                                ‫لكني لم أقرأ أب ًدا‬     ‫تستدعي كلماته‪« :‬لكل شيء وقت تحت السماء»‪.‬‬
                          ‫فنجا ًنا يشبه فنجانك»‪.‬‬                               ‫فتسأله‪« :‬حتى ال ُحب؟»‪.‬‬
 ‫تقول أمها‪ :‬كان أبوك يضيِّع ماله‪ ،‬يشتري أشياء لا‬                                   ‫فيقول‪ :‬حتى ال ُحب‪.‬‬
‫لزوم لها‪ ،‬تماثيل نحاس‪ ،‬براويز قديمة‪ُ ،‬عملات من‬
   ‫زمن فات‪ ،‬شمعدانات نحاس كنت أجدها مكدسة‬                ‫يمد كفيه إليها‪ ..‬يقول بصوت مرتعش‪ ،‬وأصابع‬
     ‫وملفوفة في قماش‪ ،‬ويخبئها هنا وهناك‪ ،‬ومرة‬         ‫ترتعش‪ُ « :‬مديى يديك‪ ..‬خذي طاقتي أو دعيني آخذ‬
   ‫وجدت تمثا ًل لامرأة من برونز فقلت له‪ :‬والنبي‬
 ‫لأحكي لأولادك‪ ..‬من هذه؟ جنيَّة من السبع بحور‪،‬‬           ‫طاقتك»‪ ،‬تجفل‪ ..‬تنظر حولها‪ ..‬تتلفت‪ ،‬تظل يداه‬
   ‫واحدة مسحورة وترشها بالماء تبقى إنسية‪ ..‬قل‬         ‫ممدودتين في الفراغ لم تستجب‪ ..‬فقبضهما بسرعة‬
 ‫لي حا ًل‪ ..‬من تكون؟ فيضحك‪ ..‬يضحك حتى تدمع‬
                  ‫عيناه ويقول لي‪ ..‬دي أفروديت‪.‬‬                              ‫بعد أن بسطهما كل البسط‪.‬‬
                 ‫فأخبط علي صدرى «أفروديت»؟!‬              ‫ما الذي كان سيحدث في العالم لو عانقت يديه؟‬
‫تبتسم‪ ..‬تلمع في عينيها دمعة‪ ،‬كان الله يرحمه يحب‬       ‫ماذا كان سيحدث في العالم لو ألقت رأسها‪ ،‬ودفعت‬
‫الجمال‪ ،‬يقول لي‪ :‬الدنيا يا رقية‪ ،‬ثلاث حاجات‪ :‬الماء‪،‬‬     ‫بكل خصلاتها لتنام على يده؟ ماذا لو قصقصتها‬
                      ‫والخضرة‪ ،‬والوجه الحسن‪.‬‬          ‫كلها فيمتلئ كفه بريش يمام أو بذيل حصان؟ لماذا‬
     ‫فأقول له‪ :‬وأفروديت هي بقى الوجه الحسن؟‬             ‫أضاعت هذه اللحظة من تاريخها الشخصي؟ أول‬
   ‫فيقول‪ :‬أنت‪ ..‬أنت الثلاثة الماء والخضرة والوجه‬
                                                                         ‫لمسة‪ ..‬وأول شحنة طاقة حب؟‬
                                        ‫الحسن‪.‬‬         ‫رفع فنجان قهوته إلى فمه‪ ..‬وملأ عينيه من كفيها‬
 ‫لم يكن يحضرني الرد‪ ،‬كنت أكتفي بالصمت‪ ،‬فيمد‬           ‫ووجهها‪ ،‬تتأمل صورته‪ ،‬وتعود أمها لتسألها‪ :‬لماذا‬
‫يديه إل َّي فلا أمد يد َّي‪ ،‬كان يحب خجلي‪ ،‬وكنت أحب‬
                                                                                     ‫تحملين صورته؟‬
                                 ‫شغفه وجرأته‪.‬‬          ‫‪ -‬يشبه عبد الوهاب وهو يغني «في الليل لما ِخلي»‪.‬‬
  ‫تسمعه‪« :‬خذي مني طاقتي أو دعيني آخذ طاقتك‪،‬‬             ‫تغني هي «يا ليل‪ ،‬أنيني سمعته والشوق رجع لي‬

     ‫تتأمل لأول مرة المنديل ال ُبني الفاتح الذي أطل‬                                            ‫وعاد‪..‬‬
  ‫من الجيب العلوي لبذلته‪ ،‬مدت أصابعها تتلمسه‪،‬‬                     ‫وكل جرح وسعته وكل جرح بميعاد»‪.‬‬
                                                      ‫تصب لأمها قهوتها‪ ،‬وعيناها تبرقان بدمع لا يولد‪.‬‬
                                   ‫رمقتها أمها‪..‬‬          ‫تتأمل قميصه البنفسجي‪ ،‬وبذلته ال ُبني الفاتح‪،‬‬
                    ‫‪ -‬لكن لماذا تحملين صورته؟!‬                 ‫تقول أمها‪ :‬أبوك كان يحب ال ُبن المحروق‪.‬‬
                                                      ‫تق ِّطر قلي ًل من القهوة على صحن الفنجان وتلتقطها‬
                                      ‫‪ -‬يشبه‪..‬‬
       ‫قالت‪ :‬هو الدنيا بما فيها‪ ،‬تأملته أمها طوي ًل‪،‬‬                                        ‫بشفاهها‪:‬‬
    ‫أمسكت الفنجان من أذنه‪ ،‬ولمعت عيناها بدمعة‪،‬‬         ‫‪ -‬أبوك كان يحب قطرة عنبر على القهوة‪ ،‬عادة لا‬
   ‫ربما هو معه الآن‪ ،‬ربما كانا م ًعا في بستان ورد‪،‬‬
  ‫ومع كل منهما ُحق عنبر‪ ،‬فنجانا قهوة‪ ،‬ربما كانا‬                              ‫تفارقه‪ ،‬والآن لا تفارقني‪.‬‬
                                                       ‫بقشر نصف ليمونة تمسد ظهر «الكنكة» النحاس‬
                 ‫على موعد فالتقيا في ِس َّكة سفر‪..‬‬    ‫فتلمع‪ ،‬تفضل «السبرتاتية» عن عين البوتجاز‪ ،‬فهي‬
    ‫إذن فأمها تعرف‪ ..‬لم تخبرها أب ًدا بقصة حبها‪..‬‬       ‫تستدعي الذكريات‪« :‬كنا نجلس بالساعات‪ ،‬نضع‬

                                 ‫تعرف‪ ..‬تعرف!‬                         ‫قطرات العنبر على فناجين القهوة‪.‬‬
    ‫يحدث هذا‪ ..‬أن تترك قلبك عند أحدهم ثم تعود‬              ‫كان يقول لي‪ :‬يا رقية‪ ..‬قراءة الفنجان حرام‪..‬‬
  ‫إلى البيت لتسأل نفسك كيف أ ُمسي وكيف أ ُصبح‬              ‫فأقول له‪ :‬نتسلى‪ ،‬فيبتسم ولا يشدد عليَّ أب ًدا»‬

                                  ‫بدونه‪ ..‬كيف؟!‬                   ‫تحرك هي الصورة بعي ًدا عن الفنجان‪.‬‬
                                                                          ‫‪ -‬لكن لماذا تحملين صورته؟‬
                                                                                  ‫‪ -‬يشبه عبد الحليم‪.‬‬

                                                                 ‫فتبتسم هي‪ :‬قصدك في قارئة الفنجان؟‬
                                                                       ‫تستعيده « َب َّصر ُت ون َّجم ُت كثي ًرا‬
   96   97   98   99   100   101   102   103   104   105   106