Page 102 - 31- ميريت الثقافية- يوليو 2021
P. 102

‫العـدد ‪31‬‬   ‫‪100‬‬

                                                        ‫يوليو ‪٢٠٢1‬‬

    ‫مشيت طوي ًل هذا اليوم ثم جلست على مقعد في‬            ‫عاطفتها علانية كأن تقبل رأسه حين تمر من وراء‬
   ‫طرف الحديقة البعيدة عن البيت‪ ..‬العدد قليل من‬           ‫كرسيّه أو تش ّم ثيابه وتحضنها وهي تلم الغسيل‬
 ‫الناس‪ ..‬دخل من باب الحديقة البعيد رجل بحقيبة‬
  ‫عسلية‪ .‬دخل غرفة الحارس‪ ،‬خرج وقد بدل ثيابه‬                                                  ‫عن الحبل‪.‬‬
   ‫ووضع كاسكيت ولبس كفوف يدين وحمل عدة‬                  ‫صوت الكمان الذي تتقنه ابنتهم يشبه بيتهم حنو ًنا‬

                           ‫أكياس سوداء كبيرة‪.‬‬                                            ‫رؤو ًفا وجمي ًل‪.‬‬
    ‫رحت أراقبه فقد لف َتني عامل النظافة كيف يفنّد‬           ‫رأي ُته مرة يجلس على طاولته وكنت أرى قدمي‬
                                                        ‫زوجته فقط في حضنه‪ ،‬كان يكتب بيد ويده الأخرى‬
       ‫الأوساخ المرمية في الحديقة حسب موادها‪..‬‬
‫الأكواب الورقية والمحارم والورق في كيس‪ ،‬القناني‬                           ‫تشبك أصابع قدمها أو يداعبها‪.‬‬
 ‫الزجاجية في كيس بعد أن يفرغها من محتواها على‬                ‫كانت الغيرة تعقد جبيني‪ ،‬حين أسمع ضحكة‬
‫التراب عند جذع شجرة‪ ،‬العلب البلاستيكية وقناني‬               ‫زوجته تتدحرج كصخرة باتجاهي‪ ..‬لكنه صار‬
‫الماء في كيس‪ ،‬أما بقايا الطعام من خبز أو سندويش‬
‫أو بسكويت فكان يضعها على طرف الحديقة فيحط‬                      ‫هاج ًسا وكثي ًرا ما سألت لماذا لست مكانها؟‬
                                                        ‫ذات صباح كنت عائدة من رياضتي الصباحية حين‬
                    ‫اليمام والعصافير لتأكل منه‪.‬‬
     ‫كنت مدهوشة بعمله وهذه الروح النظيفة التي‬               ‫التقيته في المحل‪ ،‬كان يتحدث بصوت منخفض‪،‬‬
  ‫لديه‪ ،‬كأنه ضمير يسير على قدمين‪ ،‬يقترب أكثر‪..‬‬            ‫اقتربت منه للحد الذي شممت بخور جسده‪ .‬كان‬
     ‫ينحني‪ ..‬يل ّم الأوساخ يضعها في الكيس‪ ..‬يجر‬         ‫صوته كناي قادم من بعيد‪ُ ..‬تبقي الحواس منتظرة‬
     ‫الأكياس بيده‪ ..‬يقترب وقبل أن ينحني‪ ،‬رفعت‬           ‫حتى يقترب‪ ،‬كان لوجهه ويده فعل واحد‪ :‬الاحتواء‪.‬‬
‫بسرعة نظارتي الشمسية عن عيني‪ ..‬إنه هو جارنا‬             ‫لم يلتفت إل َّي وكان في عجلة من أمره‪ ،‬إذ كاد يتأخر‬

                                       ‫وحبيبي‪.‬‬                ‫عن عمله‪ ،‬قال لصاحب المحل وخرج مسرعا‪.‬‬
   ‫صار قلبي في حلبة مصارعة يخبط خب ًطا‪ ،‬دقاته‬           ‫وددت لو أسأل صاحب المحل‪ ،‬ما عمل جارنا؟ لكني‬
 ‫تسابق الضوء‪ ..‬في كل متر يتقدم باتجاهي‪ ..‬يتقدم‬
                                                           ‫تراجعت تفاد ًيا لثرثرته‪ ،‬وقلت لنفسي‪ :‬يبدو أنه‬
      ‫عقلي بسؤال‪ :‬كيف لم أسأل عن عمله وركبت‬                                ‫صحفي أو مدرس في الجامعة‪.‬‬
         ‫صورة له صحفيًّا أو مدر ًسا في الجامعة‪.‬‬
                                                             ‫مرت الأيام والعائلة التي تعمل كسنانير تحيك‬
      ‫صار قربي قال‪ :‬صباح الخير وانحنى ليتابع‬               ‫الحب في البيت‪ ،‬كان صدى الحياكة يصل لنا من‬
  ‫عمله‪ ،‬ارتبكت ووقعت في كومة مشاعر مختلطة‪..‬‬             ‫نوافذنا المفتوحة‪ ..‬صار في بيتنا عائلة‪ ،‬حتى أخوتي‬
    ‫من الجيد أني لم أعبر له لكني أعشقه‪ ،‬هو ليس‬
 ‫صحفيًّا لكنه عارف‪ ..‬ليس غنيًّا لكن عائلته جميلة‪..‬‬                                   ‫زادت زياراتهم لنا‪.‬‬
 ‫نظرت لوجهه ذي سمة الاحتواء حين أراد أن يج ّر‬           ‫كان الرجل سري الذي كتمته مثل أمي‪ ،‬الآن عرفت‬

                ‫الأكياس وقلت‪ :‬صباح النور جار‪.‬‬             ‫الشغف والصبابة والهوى والحب الذي كتب عنه‬
    ‫فالتف َت إل َّي متفاجئًا‪ ..‬فسبقني قلبي في الرد‪ :‬إي‬     ‫الشعراء وغنت له أم كلثوم «ابتديت دلوقتي بس‬
                                                         ‫أحب عمري‪ ..‬ابتديت دلوقتي أخاف للعمر يجري»‪.‬‬
                                   ‫جيران نحن‪..‬‬
                     ‫رد‪ :‬ما تواخذيني ما عرفتك‪.‬‬              ‫في الليل أغافل أهلي النائمين وأضع كرسيًّا عند‬
‫قلت بصوت تلف على حباله زوبعة مشاعر‪ :‬لا أب ًدا‪..‬‬             ‫نافذة المطبخ عسى ألمح منه خيا ًل‪ ..‬كنت أتخيله‬
‫بدك فترة لتعرف أهل الحي‪ ..‬ثم خرجت جملة قلتها‬               ‫بجانب زوجته يحضنها‪ ،‬يمارسا الحب‪ ..‬فأخجل‬
             ‫مرا ًرا في أحلامي معه‪ :‬بتشرب قهوة؟‬          ‫من نفسي وأقول‪ :‬اخجلي يا بنت‪ ..‬روحي نامي‪ .‬ما‬
 ‫نظر إل َّي بابتسامة راضية‪ :‬أي جارتي‪ ..‬لكن دعيني‬         ‫إن أضع رأسي على الوسادة حتى أكتم بها وجهي‬

                       ‫أنهي تنظيف الحديقة أو ًل‪.‬‬                                  ‫كيلا يسمع أهلي بكائي‪.‬‬
                                                             ‫ما هي إلا دقائق أخجل بها من نفسي ثم أعود‬

                                                                                    ‫لموقعي قرب النافذة‪.‬‬
                                                           ‫عند شروق الشمس ومع عيوني المتورمة أخرج‬
                                                         ‫من البيت لأقوم بعادة المشي في الأنحاء لساعتين‪..‬‬
   97   98   99   100   101   102   103   104   105   106   107