Page 26 - ميريت الثقافية العدد (32)- أغسطس 2021
P. 26

‫العـدد ‪32‬‬  ‫‪24‬‬

                                                        ‫أغسطس ‪٢٠٢1‬‬

 ‫مستتر‪ ..‬فلكل واحد تجربة خاصة ج ًّدا تجعله يعيد‬           ‫هم أحياء في انتظار موت مجيد يليق بهم ليلتحقوا‬
       ‫رسم معالم القيمة الأخلاقية طو ًرا بعد طور‪.‬‬       ‫بإخوانهم الذين سبقوهم إلى الجنة‪ ..‬وصدفة ظهرت‬

     ‫تتحرك هذه الشخصيات فجأة من أجل تحرير‬                 ‫الكتب المؤلمة لفرحات عباس الذي كنا نعتقده مات‬
   ‫«الضمير» بفعل الكلام؛ ومع القراءة الثانية لمعنى‬       ‫منذ عشرين سنة لنكتشف أنه كان معتق ًل من قبل‬
  ‫العنوان «ضمير المتكلم»‪ ..‬فكل واحد من هؤلاء قد‬         ‫الرئيس الذي لم يكن عظي ًما مثلما تعودنا أن نسمع‪:‬‬
    ‫أدركه حراك الجزائر (‪ )2019‬وقد فقد احترامه‬
  ‫لذاته وقدرته على دمج أفعاله في الحياة الجماعية‪.‬‬                                      ‫الهواري بومدين‪.‬‬
   ‫كل واحد من هؤلاء قد فصلته تجربته عن عائلته‬               ‫على كراستي هذه كتبت منذ ثلاثين سنة (وربما‬
   ‫وعن صحبه‪ ،‬لكي يظل «محتج ًزا» في وجه أولئك‬               ‫هي تسع وعشرون سنة أو أقل قلي ًل‪ :‬لماذا يجبر‬
  ‫الذين يظلون إلى جانب الأخلاق الرسمية التي هي‬           ‫بومدين فرحات عباس على الإقامة الجبرية‪ ..‬وماذا‬
                                                            ‫أدى بهؤلاء العظماء إلى أن يموتوا اغتيا ًل بأيدي‬
     ‫أخلاقيات متحركة حسب المصالح‪ ،‬مصالح قد‬                 ‫رفقاء النضال والسلاح من الجزائريين لا بأيدي‬
   ‫تكون جلبته هو أي ًضا إلى دائرتها في لحظة إغراء‬          ‫الفرنسيين‪ :‬عبان رمضان‪ ،‬العقيد شعباني‪ ،‬كريم‬
   ‫معينة‪ ،‬كان يشعر بالخلل فيها ويستصغره‪ ،‬قبل‬
  ‫أن تكبر النقطة الصغيرة للخلل لكي تصبح بحجم‬                                   ‫بلقاسم‪ ،‬صالح بوعكوير‪..‬‬
 ‫بلاد أو تاريخ‪ ،‬وتلقي بلا أخلاقيتها العميقة على كل‬            ‫ولماذا هجر الجزائر الإبراهيمي ومفدى زكريا‬
‫أخلاق ممكنة‪ .‬وهذا عمو ًما سبب فقدان الشخصيات‬                 ‫وحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف ومصالي‬

     ‫المتحركة داخل هذه الرواية لاحترامها لنفسها‪.‬‬                                                 ‫الحاج؟‬
     ‫الأدب بقدرته على التعايش مع المفارقات‪ ،‬وكذا‬           ‫كانت مرحلة بداية طرح الأسئلة‪ .‬ولم تكن زهور‬
    ‫بإمكانياته الدلالية العالية يلقي الضوء دائ ًما على‬     ‫إلى جانبي ساعتها‪ .‬كانت لزهور إجابات لكل هذه‬
    ‫النفاق والجبن‪ .‬كما تفعل رواية «ضمير المتكلم»‬
  ‫في جزئها الساخر الذي هو ليس بساخر تما ًما‪ ،‬إذ‬               ‫الأسئلة‪ .‬كنا أترا ًبا ولكنها كانت تكبرنا جمي ًعا‬
   ‫تحرر التاريخ تما ًما لأنها تعارض الخطاب الثقيل‬           ‫بأعوام معنوية طويلة واسعة؛ بأعوام من الوعي‬
‫للأيديولوجيات وللجهاز الحاكم الذي يكتب التاريخ‬           ‫والفهم والجرأة على الأسئلة‪ .‬كان لها شكل مدرسة‬
   ‫الرسمي بخطابات يؤديها ضمير المتكلم الذي هو‬            ‫في مدرسة برج الكيفان رغم أنها كانت طالبة مثلنا‪.‬‬
‫ضمير الاعتراف‪ ،‬وبالتالي ضمير تحرير الضمير من‬
                                                                      ‫زهور الرائعة‪ .‬كم أحببتها يا الشيخ‪.‬‬
                                       ‫أشباحه‪.‬‬                                    ‫من أين جاءها كل هذا؟‬
    ‫بالنسبة لشخصيات هذه الرواية الست المتكلمة‪،‬‬
  ‫والسابع الذي هو المؤلف الذي يحدث له أن يدخل‬                     ‫لا أملك إجابة‪ .‬زهور تعلم كل شيء وبلا‬
   ‫محل الحشيش لتناول «الزطلة» فيتحول على أحد‬                 ‫سبب واضح ولا تبرير ولا تفسير»‪( .‬الرواية‪:‬‬

       ‫المساطيل الذين تتفرج عليهم الرواية؛ والذين‬                                     ‫صص‪)102 -100‬‬
       ‫يبطئون إيقاع التاريخ لتم ّطيهم على صفحات‬           ‫مشكلة الأخلاق في العالم المتخيل الذي يلغي تما ًما‬
     ‫الرواية‪ ،‬والشخصية الثامنة التي هي موضوع‬               ‫المسافة بينه وبين الواقع‪ ،‬بواسطة اشتغال واسع‬
   ‫قصة يكتبها هذا المؤلف المسطول بحثًا عن أبواب‬
  ‫جديدة لإدراك تاريخ يهدم الأبواب والتاريخ وهو‬               ‫وكبير ج ًّدا داخل الرواية من أجل جعل المتخيل‬
 ‫عابر على نقطة «مجهولة» لا تعيها هذه الشخصيات‬           ‫يغرينا بإحالاته الكثيرة المستمرة على العالم المرجعي‬
‫المعذبة‪ ،‬ثم الشخصية التي هي سحابة ماطرة تعتلي‬            ‫للنص‪ ،‬هذه المشكلة تتأتى من أنها تواجه باستمرار‬
  ‫الجميع؛ أقصد «زهور» التي هي ملتقى جميع هذه‬            ‫تجربة اللاإنساني في إطار أخلاقي مزدوج؛ فالرواية‬
  ‫الشخصيات‪ ،‬بالنسبة لهؤلاء جمي ًعا تتحول القيمة‬         ‫من جهة مجبرة على التعامل مع النماذج اللاإنسانية‬
  ‫الأخلاقية إلى حركة سلبية داخل العالم الذي يبدو‬        ‫في إطار سردي فني مطالب باحترام القانون الجمالي‬
                                                        ‫أو بابتكاره أحيا ًنا‪ ..‬وهو يتعامل من جهة أخرى مع‬
                      ‫تيار التاريخ فيه غالبًا دائ ًما‪.‬‬  ‫شخصيات تبدو منطلقة من النقطة الملائكية لإنسان‬
                                                         ‫بسيط عادي بلا مشاكل يعيش حياة بمعزل عن كل‬
                                                        ‫تعقيد‪ ،‬ولكننا بسرعة نبدأ نلاحظ أن كل واحد منهم‬

                                                             ‫تطارده أشباح كثيرة بعضها ظاهر وكثير منها‬
   21   22   23   24   25   26   27   28   29   30   31