Page 23 - ميريت الثقافية العدد (32)- أغسطس 2021
P. 23

‫‪21‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

    ‫نجد ثم تأكيد عبر مفردة (أذكر)‪ ،‬تكررت ثلاث‬                                 ‫جيمس جويس‬
 ‫مرات‪ ،‬حيث في الأولى قال الراوي‪ :‬أذكر جي ًدا كيف‬
                                                        ‫اللغة بالميتافيزيقا الموضوعية‪ ،‬فتنامت اللغة بجرأة‬
    ‫اكتشفت أنني كثير النسيان‪ .‬وهي صيغة تبرير‬             ‫نوعية ليست على الخاطر البشري‪ ،‬وهناك من ثار‬
  ‫لغوية‪ ،‬لكن في الجملة الثانية للتأكيد قال‪ :‬أذكر كل‬     ‫واحتج على تلك اللغة على اعتبار أنها تجرح كبرياء‬
   ‫شيء يا الشيخ‪ .‬وهنا أكد لنا صفة المؤرخ بنسبة‬
                                                           ‫ذاكرته‪ ،‬وهناك من استغل توظيف اللغة البينية‬
    ‫ما‪ ،‬وفي الجملة الثالثة التي كانت مدخ ًل لصيغة‬        ‫في مجالات‪ ،‬ولدينا من اهتم بتوظيف اللغة البينية‬
‫الخطاب‪ ،‬والذي ضمن عدة تأكيدات على وجود دور‬              ‫إضافة للغة الهجينة‪ ،‬وقد تمكن فيصل الأحمر من‬
 ‫للمؤرخ قدمه الراوي بصيغه مختلفة من صيغة إلى‬             ‫تقديم رواية مثيرة في مجال لسانيات اللغة‪ ،‬حيث‬
                                                         ‫قدمت كل ليلة بتفصيلات العتبات فيها ترجيحات‬
                                         ‫أخرى‪.‬‬
   ‫قدمت لسانيات اللغة الروائية في الرواية عبر كل‬                  ‫لتلك الجرأة اللغوية الى أقصى الحدود‪.‬‬
                                                           ‫قادتنا لغة الرواية الجديرة من جملة إلى أخرى‬
      ‫عتبة من العتبات التي تضمنتها الليالي صيغة‬         ‫إلى إدراك الهدف الفني للغة الروائية؛ وقد أشرقت‬
    ‫مختلفة عن سابقتها‪ ،‬رغم أن المضمون يبدي لنا‬             ‫تلك اللغة في بنية الرواية بتعبيرات متنوعة بين‬
                                                          ‫السائد والمسكوت عنه والمحرج أي ًضا‪ ،‬وصراحة‬
     ‫إعادة صياغة الموضوع ذاته بصيغة ذاتها لكن‬            ‫هنا تكرست قيمة الرواية‪ ،‬فرغم الوصف وقرينه‬
   ‫بتعبيرات مختلفة‪ ،‬لكن نجد نسق اللغة قد أكد لنا‬        ‫السرد واشتراكهما في وحدة البناء‪ ،‬ورسم ملامح‬
    ‫أن هناك اختلا ًفا واض ًحا بين عتبة الليلة والليلة‬  ‫نسبية لحدث موجود وغير موجود‪ ،‬حيث أحيا ًنا قد‬
   ‫الأخرى‪ ،‬خصو ًصا في الجانب الزمني‪ ،‬فاستعادة‬           ‫أهمل الراوي وحدة المكان في صيغة الإشارة إليها‪،‬‬
‫العتبات ليس تمثل استعادة مضمون العتبة السابقة‪،‬‬             ‫وأحيا ًنا يقدمها بصيغ سيميائية‪ ،‬وأخرى كانت‬
   ‫بل هناك مضمون جديد وإن اتصل بذات الفكرة‪،‬‬             ‫رمزية‪ ،‬وأكثر المناطق كانت تمثل صفة مكانية هي‬
   ‫والعتبة هي تمثل مفهوم ما‪ ،‬وعندما تعاد في ليلة‬         ‫عتبة المؤرخ‪ ،‬فوظيفة المؤرخ هي تدوين الحوادث‪،‬‬
 ‫أخرى يكون المفهوم قد اختلف بعدما تغيرت وحدة‬                ‫ويختلف دوره عما في عتبة المصور التي تعمل‬
  ‫الزمن‪ ،‬واختلاف الزمن فهو يرتبط بالجانب الفني‬         ‫حسب نظام مختلف تما ًما‪ ،‬فدلالة كل كلمة تعني لنا‬
   ‫لبنية الرواية‪ ،‬والذي هو ليس في مسار واحد بل‬          ‫وجود معنى معين في التفسير العام‪ ،‬فكلمة مؤرخ‬
  ‫في عدة مسارات ويحتمل عدة توجهات فنية‪ ،‬وبما‬             ‫تحيلك مباشرة إلى التاريخ وتدرك هناك حوادث‪،‬‬
                                                         ‫ففي مستهل عتبة المؤرخ في مجريات الليلة الثالثة‬
      ‫أن الرواية هي بعدة عتبات عنونة تعاد في كل‬
     ‫ليلة من الليالي الستة‪ ،‬فمن الطبيعي هناك تعدد‬
 ‫للتوجهات الفنية في الرواية‪ ،‬والتي قد بدأت بمفتتح‬
‫حواري وانتهت بمختتم حواري أي ًضا‪ ،‬والرواية على‬
  ‫المستوى الفكري قدمت جدارة كبيرة‪ ،‬حيث ناقش‬
   ‫الراوي مواضيع حساسة كثيرة‪ ،‬منها ما يحتمل‬
  ‫الإعلان عنه‪ ،‬وغيرها مما يكون مسكو ًتا عنه‪ ،‬لكن‬
 ‫الراوي قد أباحه عبر إمكانية لغته لذلك‪ ،‬إضافة إلى‬
   ‫متعة التعبيرات والتخاطر الموضوعي مع ممكنات‬
    ‫ورودها قوليًّا وغير الممكنات أي ًضا‪ ،‬وما كان في‬
   ‫المحصلة هو أن التصعيد الجمالي قد بلغ قمته في‬

                                 ‫«ضمير المتكلم»‬
   18   19   20   21   22   23   24   25   26   27   28