Page 102 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 102
العـدد 34 100
أكتوبر ٢٠٢1
الجميل قرأ إشارة ما في العينين الواسعتين ،لم تكن الذين يطيلون الوقوف على ما يخصها ،يليها رائحة
الإشارة شيئًا ساح ًرا بالمعنى الثقافي لسحر الأنوثة، الدجاج الذي أع َّدته أمس ،ثم صوت موسيقى تالفة
وليس مده ًشا بمقاييس الجمال المعتادة ،لكنه كان لاسطوانات قديمة تنبعث من عند الجارة ،الطعام
خيط توا ُصل غريبًا ومعق ًدا ،منحه إحساس الألفة السيئ ،قطعة بيتزا خرو ًجا على النظام ،ذائقة ال ُكتاب
والسكون ،منحه عطر الصحبة في هذا البلد الغريب».
(ص« ،)46النقصان» في الكراس بنية دالة (البداية في النَّص الساخن الطري ،الروائح وأغاني خيليو،
الندم ،إعداد مائدة في صورة مبهرة لطعام سيئ ،ثم
والنهاية) ،رغم كونها عارضة في السرد.
ِقدم هذا الكراس أي ًضا يشكل جز ًءا من سحر السرد تصويرها وو ْضعها على الإنستجرام ..حيث التقاء
في هذه القصة ،خاصة لو أضفت إليه معاينة فجوة السأم ،كأنها تشير لكيف تبعث بنا الأشياء والمواقف
حائرة بين حيرتين وعذابين ،ربما يطل المسكوت عنه العادية إلى المزاج الحيادي أو الرمادي ،إلى الاستياء.
غ ْرق الحياة في العادي والتشيؤ ،في الصور وال َمشا ِهد
في هذا النَّص برأسه منذ العنوان« ،واحد ..اثنين..
ثلاثة» ،هناك ثلاثة أزواج من الأكف الصغيرة التي دون معنى حقيقي ،حلقات من سأم.
تع َلق بالروح ،وتعيق المشي أحيا ًنا ،ربما ليس المشي ذات البنية التي تعتمد على نمو ال َق ِّص بالحلقات التي
فقط؛ بل تجعل أي تجربة -تقع تحت نطاق خيوط تفضي إحداها للأخرى؛ يأتي َن ُّص «مسرحية» ،لكن
التواصل الغريبة والمعقدة -محكو ًما عليها بالانتهاء
بإضافة تنويعة جديدة لل َقص؛ حيث يتكرر -ثلاث
سري ًعا .استحضرت تجربة الساردة الكراس وما مرات بالنص -مفتتح« :في عام الحزن ظهرت بوادر
وجدته فيه من قصة الحب ،أو ربما العكس؛ الكراس
الحكمة على شاعر منسي»( .ص )39كأننا بصدد
هو المحفز الذي استدعى س ْر َد شخصية ال َقص. موشح حزين ،المفتتح ثابت ،لكنه يدفع كل مرة
في تخلُّص سريع وواقعي من التو ُّغل في ال َبوح ،تقول
الساردة بعد أن وصلت وطنها وو َصف زوجها عتبة بمتغيرات متعددة ،كلها تشير إلى ظواهر بلا منطق،
مجموعة من العلاقات الغرائبية القمعية لمحاور القوى
بيته للسائق« :ترى بماذا تفكر عتبات البيوت حين
تغادرها الأقدام التي تعرفها؟ هل تذوق هي الأخرى بمجتمع الفن والسلطة ،وتجار السلاح ،والقابضين
على رؤوس الأموال ،تظهر هذه المحاور من خلال
لوعة الفراق ذاتها التي ترسمها قصص العشاق؟
واحد ..اثنين ..ثلاثة وصلنا بخير»( .ص)48 كنايات يجسدها العادي والمتدا َول ،لكنه حين يو َّظف
«المسئولية» بنية دالة أخرى في المحور الزمني على هذا النحو؛ يدلل على معا ٍن تتجاوز الظواهر
الحديث في ال َقص. لتكمن في عمق دلالاته.
ولعلنا نتساءل :لماذا لا تكتفي القاصة بالواقع
ما يشدنا إلى الأطلال ،حين نراها ،قدرتها على جعلنا
ن ِح ُّس بالزمن «الصافي» من دون تلخيص للتاريخ لتحاكيه؟ لماذا لا تكتفي بتسلسل حكاية لها مراحل
أو إنهائه في و ْهم المعرفة أو الجمال ،وهكذا تتخذ نعرفها حيث البداية والذروة والنهاية؟ هل لأن الواقع
الأطلال -التي يمثلها الكراس هنا -ش ْك َل الأثر الفني. والسرد التقليدي قد انغمس في الزيف؛ (أحسب
وتن ِّوع القاصة في أصوات رواة القصص في هذا) أصبحت الكاتبة بحاجة للتقنية التي تنهض بما
تريد قوله عن الواقع؟ حيث يتبدى التمثيل الجمالي
مجموعتها ،كما تن ِّوع في تقنيات السرد ،في قصة السردي ل َق ْمع الواقع وزيفه في تلك الحلقات المتصلة
«عيد ميلاد» يأتي السرد على لسان جنين في
المنفصلة.
اللحظات الأولى لولادته ،وتنمو الأحداث ل ُنوا َجه في تجربة س ْر ٍد مراوغة ،ثنائية المستوى الزمني،
بالرحيل ،بمغادرة الأوطان لما تقاسيه من الحرب، تضفر القاصة رحلة عائلة إلى اسطنبول وأكف ثلاثة
تقيس الكاتبة العمر بسنوات الرحمة فقط ،تقول إن مزدوجة في يد الأم ،وكرا ًسا صغي ًرا ناقص الواجهة
موظف الجوازات لم يصدقها حين أخبرته أن عمرها والنهاية ،كانت قد وجدته في غرفة ُكت ٍب منسية
خمس سنوات فقط ،تقول« :ربما لأنه لا يدرك أن في بيت جدها بالعراق ،تحكي انطباعات ومقارنات
بين الفتى الذي سافر إلى اسطنبول ،ووجد عشقه
الحرب تجعلنا نحبس الأنفاس ونغمض العيون هناك ،تقول« :اللحظة الأولى التي نظر فيها إلى الوجه