Page 112 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 112

‫العـدد ‪34‬‬    ‫‪110‬‬

                                                       ‫أكتوبر ‪٢٠٢1‬‬

    ‫الماهرين من قبيل أنطون تشيخوف ومن هم في‬               ‫تنفتح نوافذ المسكوت عنه التي تتر َّجل من سفر‬
                                        ‫مكانته‪.‬‬            ‫المحذورات أو المحظورات‪ .‬سفر المستورات هذا‬
                                                        ‫من سيفتحه في القرى الرطبة حيث تموت الأسرار‬
    ‫حاشية حول الخيال والتاريخ‬                              ‫مع أصحابها وتبقى ظلال الأقوال تنوء بالقرب‬
  ‫الشخصي المشترك (بمثابة المخرج)‬                          ‫من أبواب أحبوا الوقوف تحتها‪ .‬النساء في قرانا‬
                                                            ‫مجبولات على طبية متناقضة غريبة‪[ .»..‬دفاتر‬
    ‫الخيال عملية جوهرية في تركيب العمل الأدبي‪،‬‬
      ‫وكذلك في تغذية تاريخ الواقعة الهامة المسماة‬                                  ‫عائلية‪ ،‬ص‪]25 /24‬‬
  ‫«اللغة»‪ .‬فالخيال يأخذ حي ًزا كبي ًرا في بناء منظومة‬  ‫المفعول الدرامي هنا يبلغ أعالي قلي ًل ما يتمكن منها‬
  ‫قصصية أو حكائية لأنه يذوب الأحداث ويجعلها‬
      ‫تنتظم وفق مسار سردي‪ ،‬ثم يأتي دور اللغة‬               ‫كبار الكتاب‪ .‬أدوات قليلة محدودة يتم تشغيلها‬
   ‫لتساهم في إعادة بعث الحياة في هذه النصوص‪،‬‬                         ‫لأجل إنتاج خطاب في غاية الفعالية‪.‬‬
  ‫لأنهما يشكلان م ًعا مسا ًرا قصصيًّا منتظ ًما‪ ،‬لذلك‬
   ‫نلاحظ أن القصة تسير نحو عالم يكبر ويرفض‬             ‫ونقرأ من قصة أخرى هي أي ًضا من اللحظات عالية‬
                                                       ‫التردد للمجموعة؛ أقصد قصة «أول الحب‪ ..‬أو أول‬
       ‫الاستقرار‪ ،‬لأن طبيعة اللغة تميل إلى التكاثر‪،‬‬
     ‫والخيال يعتمد على السلالات اللغوية التي تولد‬                                    ‫الكسران»‪ ،‬ما يلي‪:‬‬
                                                           ‫«محمد السبع‪ ،‬هكذا اعتاد الجميع مناداته‪ ،‬منذ‬
       ‫من رحم اللغة‪ ،‬فيشكلان م ًعا متلازمة نصية‬          ‫حادثة الهجوم الذي تعرضت له القرية من ق َّطاع‬
   ‫تقبل الاختلاف وتجعله عادة سردية تصنع باقي‬            ‫طرق مسلحين أرادوا أن ينسحبوا مع غطاء الليل‪،‬‬
 ‫الأحداث‪ ،‬ومن ثم يمكن القول إن المنظومة السردية‬        ‫لكن محمد باغتهم بسلاح وحيد وقديم كان قد أعد‬
     ‫جعلت القصة تتأثر رافضة الانتظار‪ ،‬فكل حدث‬            ‫لإطلاق الأصوات التي تخيف الحيوانات الغريبة‪،‬‬
                                                        ‫أربكهم بحركاته السريعة فحسبوا أن عدد الرجال‬
     ‫ينتصر للآخر‪ ،‬وكل حكاية تشجع على الأخرى‪،‬‬             ‫الذين استقبلوهم كبير‪ ،‬يضيء قلبه بنشو ٍة خفي ٍة‬
‫الرابط بينهما خيط لغوي تستعمله القاصة‪ ،‬فصنعت‬              ‫وهو ير ِّدد بين نفسه هذا اللقب‪ :‬أنا سبع‪ .‬متعتي‬
                                                        ‫الوحيدة هي أن أفوز‪ ،‬أية غرابة أن يجعل الإنسان‬
     ‫منه حد ًثا قصصيًّا شكل منظومة حكائية تعيش‬              ‫نفسه مثل أمي يعلِّق وجوده وفرحه بشخص‬
‫داخل دفتر عائلي‪ ..‬تقول إشراق سامي في مجموعتها‬           ‫آخر‪ ،‬مهما كان سيبقى آخر‪ ،‬كيف سمحت له بأن‬
                                                          ‫يكسرها ويهزم شغفها بالحياة (أصعب رهانات‬
    ‫القصصية تحت عنوان «عندما مات صوت أبي»‪:‬‬                ‫المرء هي أن يفوز بنفسه)‪ .‬في يوم جمعة شتوية‬
‫«دون سابق إنذار فقد أبي صوته‪ ،‬كان صو ًتا ممي ًزا‬            ‫معتدلة المزاج ُط ِرق بابهم بقوة‪ ،‬أحدهم يناديه‬
                                                             ‫بلهفة‪ :‬ابنة محمود الملاك وقعت في حافة بين‬
   ‫يعرفه القاصي والداني في شارعنا‪ ،‬لم يكن منغ ًما‬         ‫النهر والجرف ولا أحد يستطيع الوصول إليها‪،‬‬
     ‫مثل أصوات المطربين‪ ،‬لكنه كان عاليًا وحاس ًما‬       ‫ركض مسر ًعا كعادته‪ ،‬حين أبصر وجهها وملامح‬
                                                          ‫النعومة والترف شعر بإحساس سيئ‪ ،‬لم يألفه‪،‬‬
   ‫وحسن النبرة مثل أولئك الذين يدخلون الإذاعات‬             ‫استخدم مهاراته المذهلة وجسده الفائق المرونة‬
  ‫ليعلنوا أن على الناس إبدال الصور التي ترسو على‬        ‫والقوة‪ ،‬رفعها دون أذى‪ ،‬وتمكنت هي من الوقوف‬
                                                       ‫والعودة إلى بيت أبيها المعد للسفرات الشتوية وسط‬
     ‫جدرانهم بثقة‪ ..‬لأن عصرها قد انتهى»‪[ ..‬دفاتر‬         ‫بساتينه‪ .‬عاد إلى أمه‪ ..‬لم يكن مزه ًّوا ككل مرة‪»..‬‬
                                 ‫عائلية‪ ،‬ص‪.]56‬‬
                                                                                 ‫[دفاتر عائلية‪ ،‬ص‪.]13‬‬
‫لذلك يمكن القول إن المجموعة القصصية مثل فصول‬                 ‫لقطات سريعة جميلة مكتوبة ببراعة وقادرة‬
    ‫السنة تتربع على عرش الحكي‪ ،‬ثم تنتج الفرصة‬              ‫على استنطاق النفسيات بطريقة عادة ما نجدها‬
                                                         ‫لدى الروائيين أو لدى فئة محدودة من القاصين‬
 ‫لباقي الذوات في البوح بكل التفاصيل‪ ،‬وهكذا تنتظم‬
             ‫العملية السردية داخل الدفاتر العائلية‬
   107   108   109   110   111   112   113   114   115   116   117