Page 165 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 165

‫‪163‬‬  ‫الملف الثقـافي‬

   ‫نقي ًضا للإيمان‪ ،‬أو مجافيًا‬     ‫الإنسانية بعي ًدا عن تسلط‬      ‫في حياة المسلمين المعاصرين‪،‬‬
 ‫للاعتقاد الديني‪ ،‬إنما أراد أن‬   ‫أمير التنظيم وشيخ الجماعة‬           ‫وضرورة وجود «جماعة»‬
 ‫يجعل الإيمان مسألة فردية‪،‬‬                                            ‫تقيم الإسلام في شموله‪.‬‬
                                   ‫وولي الطريقة‪ ،‬وبعي ًدا عن‬
     ‫ويحرر المؤمن من تبعات‬           ‫تقديس المقولات القديمة‬        ‫وهذا التنوير يجب أن ينطلق‬
   ‫من ادعوا أنهم وسطاء بين‬                                              ‫من معرفة المسالك التي‬
                                                ‫وأصحابها‪.‬‬
     ‫العبد وربه‪ ،‬أو وكلاء لله‬                                     ‫سارت فيها التنظيمات الدينية‬
   ‫على الأرض‪ ،‬وكان من بين‬         ‫أولا‪ :‬ما التنوير؟‬                  ‫السياسية حتى تحوز قوة‬
 ‫التنويرين من يرون أنه حين‬                                          ‫تمكنها من تحصيل السلطة‬
‫تنتهي حدود العقل تبدأ حدود‬           ‫التنوير هو حركة فكرية‬
                                   ‫انطلقت في الربع الأول من‬        ‫أو التحكم في المجتمع‪ ،‬وأولها‬
                    ‫الإيمان‪.‬‬    ‫القرن الثامن عشر في أوروبا‬              ‫نقض التقليد في مسائل‬
     ‫وينسب التنوير إلى «نور‬      ‫وشارك فيها فلاسفة وأدباء‬
 ‫العقل الطبيعي» الذي بوسعه‬        ‫وعلماء‪ .‬ويميل كثيرون إلى‬          ‫العبادات بأبعاها الاجتماعية‬
   ‫وحده أن يقود الإنسان إلى‬                                           ‫والثقافية والرمزية‪ ،‬بغية‬
  ‫الحكمة والصواب‪ ،‬ويخرجه‬             ‫أن هذه الحركة بدأت في‬             ‫تطوير سمت مختلف في‬
    ‫من مرحلة القصور العقلي‬           ‫فرنسا وانتقلت منها إلى‬
 ‫إلى سن الرشد‪ ،‬حسبما يقول‬       ‫ألمانيا وانجلترا وعبرت المحيط‬      ‫التفكير الديني التعبدي‪ ،‬وفي‬
     ‫كانط‪ ،‬الذي كان يصرخ‪:‬‬         ‫إلى أمريكا الشمالية(‪ .)2‬لكن‬     ‫هيئة المتدين أو شكله‪ .‬وثانيها‬
  ‫«اعملوا عقولكم أيها البشر!‬     ‫الناقد تزفيتان تودوروف لا‬        ‫هو مواجهة المؤسسات الدينية‬
‫لتكن لكم الجرأة على استخدام‬      ‫يميل إلى هذا ويقول‪« :‬يعتقد‬
    ‫عقولكم! فلا تتواكلوا بعد‬     ‫الفرنسيون في غالب الأحيان‬           ‫التقليدية وكذلك التنظيمات‬
  ‫اليوم ولا تستسلموا للكسل‬      ‫أن فكر الأنوار من صنيعتهم‪،‬‬        ‫الدينية‪ /‬الاجتماعية باعتبارها‬
  ‫والمقدور والمكتوب‪ .‬تحركوا‬        ‫ولكن الأمر ليس كذلك‪ ،‬في‬         ‫إما مقصرة في اتباع صحيح‬
‫وانشطوا وانخرطوا في الحياة‬        ‫بادئ الأمر تطورت الأفكار‬
  ‫بشكل إيجابي متبصر‪ .‬فالله‬       ‫في ما وراء بحر المانش أو في‬           ‫الإسلام‪ ،‬أو متماهية مع‬
    ‫زودكم بعقول وينبغي أن‬        ‫إيطاليا‪ ،‬ثم تعمقت ونضجت‬            ‫أساليب التدين التي شاعت‬
  ‫تستخدموها»(‪ .)5‬ومع كانط‬        ‫في وقت لاحق في ألمانيا‪ .‬بكل‬         ‫في زمن الانحطاط‪ .‬وثالثها‬
   ‫وقبله وبعده صارت هناك‬        ‫بساطة كانت فرنسا صندوق‬
  ‫أطروحات وتساؤلات مهمة‬              ‫الصدى الذي أتاح لهذه‬              ‫هو الانخراط في الحركة‬
     ‫تنطلق من أن «العقل هو‬         ‫الأفكار الانتشار في ربوع‬          ‫المجتمعية الدينية والوطنية‬
‫الموضوع المركزي للفلسفة»(‪.)6‬‬       ‫العالم بفضل إشعاع العقل‬           ‫باعتبارها حركات للنهضة‬
   ‫وبالعقل انبعثت روح النقد‬                                       ‫الإسلامية تعني بالموضوعات‬
     ‫الحرة في الإبداع الأدبي‬                  ‫الفرنسي»(‪.)3‬‬           ‫الوطنية الكبرى التي كانت‬
     ‫والعلمي بشقيه الطبيعي‬      ‫في كل الأحوال «لم تكن حركة‬          ‫مطروحة أص ًل‪ ،‬بدعوى أن‬
 ‫والإنساني‪ ،‬وواجهت التفكير‬      ‫التنوير مرتبطة ارتبا ًطا دائ ًما‬  ‫هناك منظو ًرا أو منطل ًقا جدي ًدا‬
      ‫الأسطوري والخرافات‪،‬‬                                         ‫لمعالجتها يتمثل في الإسلام(‪.)1‬‬
      ‫وأطلقت تيارات مختلفة‬        ‫بأية مدرسة فلسفية معينة‪،‬‬           ‫ثم بعد ذلك ينطلق التنوير‬
                                ‫وإنما كانت نتيجة للصراعات‬           ‫إلى بناء مشروعه الذي يعيد‬
       ‫صنعت ثورة في العلم‬       ‫الدينية الدموية غير الحاسمة‬         ‫الدين إلى وظيفته الأساسية‬
  ‫والفن والفكر وعلاقة الناس‬     ‫التي شهدها القرنان السادس‬          ‫في الامتلاء الروحي والسمو‬
                                ‫والسابع عشر في أوروبا»(‪.)4‬‬          ‫الأخلاقي والخيرية‪ ،‬ويطلق‬
        ‫بالسلطتين السياسية‬       ‫ومع هذا لم ُيطرح «التنوير»‬          ‫العنان للعقل ليفكر ويبدع‬
                                                                      ‫وهو مطمئن إلى أنه يكمل‬
                                                                   ‫مسيرة الوحي ولا يناقضها‪،‬‬

                                                                       ‫كما يطلق العنان للإرادة‬
   160   161   162   163   164   165   166   167   168   169   170