Page 95 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 95

‫‪93‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

   ‫فقد كانوا يتكومون ويحتمون ببعضهم البعض حتى لا‬               ‫لهذا السبب؟ وفجأة توقفنا عن الأسئلة‪ ،‬أتذكر جارنا‬
  ‫ينظرون لعبوس وجهه حتى أصابهم التشوه والتجاعيد‬               ‫عالي الشأن والذي كانوا يبحثون له عن مخ؟ هل يمكن‬
 ‫المبكرة‪ ،‬أيعلم أنه لو كان ابتسم أو تذكر نكتة حمقاء كنت‬        ‫أن يكونوا أعطوه مخي؟ لو أعطوه قلبي لرق لكن عقل‬
   ‫سأشاركه الضحك‪ ،‬ولربما كان هذا سيخفف عنه مهام‬               ‫ذكي في روح شريرة سيحول الأرض لغابات محترقة‪.‬‬
  ‫وظيفته التي تتطلب العبوس والوجل‪ ،‬ربما كان استطاع‬           ‫ولربما أعطوا لساني أي ًضا لأحد أعوانه لينطق به ظلا ًما‪،‬‬
 ‫أن يكتب في سيرته الذاتية أنه «ضحك يو ًما» لما كان يفعل‬    ‫ما هذا الظلام؟! يا الله أريد أن أنتفض من هذا التراب‪ ،‬من‬
  ‫كل شيء على عجل وكأنني «تارجت» لا بد أن يحققه في‬            ‫هذا الظلام‪ ،‬أريد أن أغير وصيتي‪ ،‬أريد أن أسترد مخي‬
   ‫نهاية اليوم‪ .‬لما لم يمكث معي قلي ًل ليطمئنني‪ُ ،‬ترى عند‬  ‫ولساني‪ ،‬يا ليتني ما مت في السبعين على كرسيي المفضل‬
‫عودته للمنزل سيخبر زوجته وأولاده عني؟ أم أنه أخبرهم‬
   ‫بشكل روتيني عن يومه في العمل كيف كان شا ًّقا‪ ،‬وأنه‬                            ‫في الجزء المهجور من حديقتي‪.‬‬
 ‫ضاق ذر ًعا بهذا العمل وبرائحة عظام الأموات؟ هل عندما‬                                                   ‫‪...‬‬

    ‫اتصلت به زوجته عند دفني أخبرها أنه مشغول الآن‬             ‫هيا سنخرج من هنا‪ ،‬هيا نستكشف تلك الصخور التي‬
    ‫ويده مشغولة؟ هل ُيطلق عليَّ الآن لقب «حتة شغل»؟!‬        ‫في سقف هذا القبر‪ ،‬ما هذه الأصوات؟ هل يلعب الصغار‬
   ‫لربما تأفف من زيادة وزني وصعوبة حملي ووضعي‪،‬‬               ‫حول قبري الآن؟ هل يستخدمه أحدهم كحائط للغميضة‬
    ‫يا للسماء! هل يسخر من وزني؟ لا بد أن أقوم بحمية‬
‫قاسية لإنقاص وزني‪ ،‬فلم يستطيعوا إخراجي من كرسيي‬                 ‫ويختبئ الآخرون وراءه وهم يكتمون ضحكاتهم‪ ،‬يا‬
‫المفضل في قطعة مهجورة من حديقتي وأنا في السبعين من‬             ‫الله كم أحب ضحكاتهم ولكن أخاف أن تركل أرجلهم‬
                                                             ‫الصخور فتقع إحداها وتهشم وجهي‪ ،‬وأنا أحتاجه الآن‬
                                ‫عمري‪ ..‬عند موتي‪.‬‬             ‫للخروج من هنا‪ ،‬ترى هل تصعد فوق قبري الآن إحدى‬
                                             ‫‪...‬‬             ‫المخرجات ُتعاين أحد مواقع التصوير كما فعلت أنا يو ًما‬
                                                           ‫ما في شبابي‪ ،‬إ ًذا إنها الكرما اللعينة‪ ،‬لربما استغاث بها في‬
‫عندما أنهض أريد أن أتطلع لشاهد قبري‪ ،‬ترى ما المكتوب‬        ‫ذلك اليوم من وطأت قدماي قبره‪ ،‬هل هذا صوت قدميها؟‬
  ‫على شاهد قبري؟ هل مكتوب ماتت مبتسمة أم متجهمة؟‬              ‫انزلي أيتها الحمقاء من على قبري‪ ،‬يا الله كم أحب الفن‬
   ‫هل رسمني أحدهم بالطباشير بجوار اسمي؟ هل كتبوا‬           ‫ولكنني لا أتحمل صوت أنفاس حماس الشباب على قبري‪.‬‬
  ‫أنها تركت أث ًرا؟ أنا أرحب برسومات الجرافيتي الثائرة‪،‬‬    ‫ُترى هل أخطأ أحد الأبناء وقصد قبري عندما أخبره والده‬
‫ربما يمكنهم رسم تجربتي النافعة الوحيدة وهي الثورة‪ ،‬يا‬       ‫قدي ًما‪« :‬ابقى تعالى طرطر على قبري لو فلحت»؟! لقد جاء‬
 ‫إلهي‪ ..‬كان لا بد أن أترك لهم صورتي بالقناع الذي كنت‬       ‫الآن ليتبول فوق قبر أبيه ولكنه أخطأ القبر وقصد قبري‪،‬‬
 ‫أرتديه وقت إطلاق الغاز المسيل للدموع‪ ،‬ربما سيرسمون‬         ‫أدعو الآن ألا يفلح هذا الابن حتى لا يأتي مهرو ًل ليتبول‬
                                                             ‫فوق قبري‪ ،‬يا الله كم أحب المتح ِّدين الثائرين ولكنني لا‬
   ‫الآن صورة أخرى لي وأنا أهرول بين المتظاهرين بحثًا‬        ‫أحب رائحة النشادر‪ ،‬إنها المرة الأولى التي أتمنى فيها ألا‬
  ‫عن طبيب لينقذ صديقي الذي أردته رصاصة قتي ًل‪ ،‬هل‬             ‫يفلح أحدهم‪ ،‬هل يصيبنا الموت بهذه الأنانية؟ لما أخاف‬
‫سأقابله الآن؟ هل سأخبره أنني افتقدته طوال تلك السنين‬        ‫على قبري هكذا؟ فأنا لم أكن أخاف على سريري هكذا‪ ،‬لم‬
‫وأنني رسمت له جرافيتي ملأت به حائط المنطقة المهجورة‬        ‫أكن أحب سريري‪ ،‬فقد كنت أمكث طوال الوقت في كرسيي‬
‫من حديقتي‪ ،‬وكنت أخاطبه حينما كنت أجلس على كرسيي‬
                                                                      ‫المفضل في القطعة المهجورة في حديقة منزلي‪.‬‬
                                        ‫المفضل؟‬                                                         ‫‪...‬‬
     ‫لما أكرر هذه الجملة كثي ًرا‪ ،‬إنني «قد مت فوق كرسي‬
   ‫مفضل في جزء مهجور من حديقتي»؟ لم أكن يو ًما بهذا‬           ‫أريد أن أنهض‪ ،‬لما وضعوني على ظهري؟ فهم يعلمون‬
  ‫الملل‪ ،‬فتسارعني روحي بالرد‪ :‬ربما لأنك قد دفنت مخك‬          ‫أنني أنام على بطني فقط؟ النوم على البطن مفيد ويقوي‬

      ‫ولسانك أسفل هذا الكرسي حتى لا يتسنى لهم أن‬                  ‫عضلة القلب‪ ..‬لكن هل هو مفيد للأموات من ذوي‬
    ‫يحصلوا عليه‪ ،‬ارقدي هنا في سلام ودعينا نبحث عن‬            ‫الأرداف الممتلئة؟ ربما الحانوتي العابس كان يعلم ولهذا‬
‫أبيك ونطفتك وصديقك الذي ُقتل بمخ ولسان من تخشين‬            ‫لم يهتم بوضعيتي المفضلة‪ ،‬لماذا لم يبتسم لي؟! فلقد تجعد‬
                                                             ‫ملمس صخور القبر لعبوسه المتكرر كلما وضع أحدهم‪،‬‬
                        ‫حصولهم على مخك ولسانك‪.‬‬
   90   91   92   93   94   95   96   97   98   99   100